في الذكرى الرابعة: حين جرف “الطوفان” بلاد البعث

فيكتوريوس بيان شمس

عُرض في العام 2003 الفيلم التسجيلي “طوفان في بلاد البعث” للمخرج السوري عمر أميرالاي، والذي يرصد فيه عملية مسح الأدمغة لأجيال بأكملها، بشعارات أيديولوجية، مهمّتها ترسيخ حكم “حزب البعث العربي الاشتراكي”. وفي المسألة نقطتان مهمتان يجب التوقف عندهما، الأولى: أن “حزب البعث” لم يحكم. من كان يحكم بالفعل، هو ما كشفته الثورة التي اندلعت في نفس العام الذي توفي فيه مخرج الفيلم، وهو أن البلاد محكومة من قبل مجموعة مافيوية لها ارتباطاتها الخارجية المعقّدة، بحكم طبيعة بنيتها التي يتداخل فيها رأس المال بالسلطة، مدعوم بأجهزة “أمن” كانت مهمتها الأساس، البطش بكل من يفكّر بالاعتراض على حكمهم. وهو ما يعني أن لا أحزاب ولا قوى سياسية في سوريا، لا قبل الثورة، ولا بعدها عندما أصبحت الاصطفافات أكثر وضوحاً، فأحزاب النظام انكشفت وتعرّت بعد أن التحقت قواعدها -بما فيها “حزب البعث” نفسه- بالثورة، فيما بقيت بعض قيادات هرمة، توارثت زعامة هذه الأحزاب، متحلّقة حول المجموعة الحاكمة دون أن تستطيع ترك أي تأثير.
على الضفة الأخرى، أو ما يمكن اصطلاح صفة “معارضة” عليها، تشكّلت الكيانات والأطر السياسية النخبوية، دون أن تتشكّل الأحزاب، والتي اتّضح أن أغلبها على غرار النظام ومن معه، مرتبطون بجهات لها أجنداتها ومصالحها في سوريا والمنطقة.
الثانية: أن الجيل الذي عملوا على إنشائه بهذا الشكل، كان تحت إشراف تحالف يجمع الجهل بالجاه، مجسّداً خير تجسيد بشخصية عضو “مجلس الشعب السوري”، ذلك الرجل العشائري الأمي “دياب الماشي” وهو النموذج الذي اتخذه عمر أميرالاي كمحور في عمله السينمائي التوثيقي.
لكن بالمقابل، لم تكن العشائرية على هذا السوء على كل حال، لأن طبيعة العلاقات الاجتماعية التي كرّسها نظام الحكم نفسه، كانت تفرض هذا الشكل من العلاقات بين الناس، فعضو مجلس الشعب السوري الشهير يوسف أبو رومية، لم يكن سوى رجل عشيرة، وهو عضو في مجلس، كانت مهمته الأساس، المصادقة والموافقة، والتغطية على كل موبقات المجموعة الحاكمة. لعل موقف صغير هنا، على غرار من عملوا على قمع الناس في أجهزة المخابرات لسنوات طويلة، ثم لم يتردّدوا بالانشقاق عندما حانت الفرصة، لعل موقف كهذا، هو ما قام به يوسف أبو رومية بعد حوالي (9 أيام) فقط على اندلاع انتفاضة درعا، عندما تحدث بشجاعة في “مجلس الشعب”، وقد تم تصويره عبر عدسة هاتف محمول، ثم سُرّب التسجيل. موقف كهذا يشفع للرجل المتوفي عن كونه كان عضواً في “مجلس الشعب”. والجرأة التي تحدّث بها هذا الرجل، لم تكن استعراضية، لأنه يعلم بحكم موقعه وخبرته، أنها لن تنقل، وأنّه يتحدّث في مكان مغلق، قد يدفع حياته ثمناً لذلك بعدها.
من يعيد الاستماع إلى ذلك التسجيل الآن، سيلحظ المراحل التي قطعتها سوريا، والتي لم يكن قد طرح في بدايتها شعار “إسقاط النظام” بعد، فكان كلام يوسف أبو رومية كلام جريء، عالي السقف، بل ربّما، لم يعلوه سقف منذ ذلك الحين، فالكلام من على منابرهم أصبح مستحيلاً، مع أن الكلمة ذاتها تعبّر عن تلك الحقبة حصراً، فعبارات مثل: ” الحوارنة أوفياء، ويحبوا الدكتور بشار، وأبو الدكتور بشار لما قدموه لهذه المحافظة من خدمات اجتماعية واقتصادية”، أو مثل: “ولا إنسان في سوريا يكره كلمة بشار الأسد، فالكل يحترم ويقدّر موقف هذا الإنسان ومواقفه الشريفة، اجتماعية كانت، أو سياسية، عربية كانت، أو دولية”، ما عادت مقبولة، حتى بعد أقل من شهر على بدء الانتفاضة التي أعيد فيها النظر بالموقف الشعبي الخاطئ، عندما سكت قسم كبير من الشعب السوري عن ارتكاب النظام لمذبحة حماه في العام 1982، والتي أظهر فيلم “طوفان في بلاد البعث” اعتراف عضو “مجلس الشعب” دياب الماشي بمشاركة ميليشيات قبلية تتبعه فيها.
لكن الجرأة تكمن في عبارات أخرى: “والحوارنة كانوا ينتظروا فعلاً قدوم السيد الرئيس واعتذاره لأهل حوران وتعزيته، واعتبر لو كان الأمر هذا، لما حصل أي شيء في حوران، رغم عدد القتلى الذي كان والجرحى”، حيث لأول مرة ربّما في تاريخ سوريا منذ حكم “حزب البعث”، يتجرّأ أحدهم (من على منابرهم) ليطلب من الرئيس القدوم للاعتذار. وهو ما لم يتجرّأ أحد على فعله من موقع مماثل قبل هذه الحادثة.
لكن، ماذا لو فعلها بشار الأسد؟ ماذا لو ذهب إلى درعا للاعتذار؟، هل كانت ستتوقف الانتفاضة فعلاً؟، أساساً، هل أن الانتفاضة قامت على خلفية ما حدث مع أطفال درعا؟.
معلوم هنا، أن ارتكابات أجهزة الأمن كانت أفظع، قبل، وبعد حادثة أطفال درعا. ومعلوم أيضاً، أن رياح التغيير القادمة من تونس وما بعدها، قد استنفرت أجهزة الأمن في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، وكأنهم بفطرتهم استشعروا أُزوف ساعتهم. لعل الحقيقة تكمن هنا، استعداد طرفي الصراع (شعوب، بمواجهة أنظمة)، واحد من موقع الهجوم، وآخر من موقع الدفاع، والحريق بحاجة للشرارة الأولى، لأن ما شهدته سوريا في العقود الماضية، كان أكبر بكثير من حادثة أطفال درعا وأشنع، وقد كان من السهل على التركيبة الأمنية الحاكمة السيطرة على أي تمرّد مهما كان حجمه.
هذا يعني، أن ذهاب بشار الأسد للاعتذار، قد يؤخر الانفجار الكبير، لكنه لن يوقفه، لأن الحلول الحقيقية، ليست بتقبيل اللحى على الطريقة القبلية أو الجهوية كما اقترح يوسف أبو رومية آنذاك، بل ببرامج سياسية اقتصادية اجتماعية، تحقّق العدالة في حدودها الدنيا. وهنا لا بد من التذكير بالخطوة التي قام بها النظام عندما أرسل رستم غزالي وفيصل المقداد للمصالحة مع أهالي درعا، وقد كانت خطوة مقبولة إلى حد ما، لولا عودة أجهزة المخابرات مساء نفس اليوم لشن حملة اعتقالات ثأرية بحق أبناء المحافظة.
وفي العودة بالذاكرة أربعة أعوام إلى الوراء، يمكن التكهن، أن ليس فقط قطاعات واسعة من الشعب السوري الثائر تطرح التساؤلات عما آلت إليه أحوال البلاد وأحوالهم. بل يمكن الجزم، أن النظام ومن معه، يطرحون ذات التساؤلات، وإن من موقع آخر.
(البديل)

السابق
ميقاتي يحارب تيار المستقبل عبر اختلاق أزمات شمالية وهمية
التالي
الأسد: سوريا حريصة على عقد جولة ثانية من الحوار السوري- السوري بموسكو