جدتي أمّنا كلّنا…سيّدة الحب والفن والتّوابل

في عيد الأم اختار عاصم ترحيني بعد معايدته لوالدته بادية هاني فحص مشافهة، ان يعايد جدته ست الكل وأم الجميع كتابة عبر نصّ وجداني خصّ به موقعنا، ولما كانت الجدّة ام حسن ما زالت تعاني من حرقة فقد زوجها السيد هاني الذي لم يمض على رحيله المفجع والمفاجىء سوى بضعة أشهر، فإن في نص الحفيد عاصم ما يعزّي جدّته لأنها سوف ترى نفسها وسيّدها الحبيب في أبهى صور...صور تضجّ بالحياة في رحاب مطبخها الجميل...

كثيرة هي الأدوار الصعبة التي أتقنتها جدتي “أم حسن” ونجحت فيها، منذ زواجها من جدي السيد هاني فحص، منتقلة من بيئة مدنية منفتحة في النبطية، إلى أخرى محافظة في النجف، وما ترتب على هذا الانتقال من دواعي الانقلاب في نمط العلاقات والمظهر والعادات والسكن وحتى المعتقدات، ثم عودتهما من هناك، إلى جبشيت، حيث كان بانتظارها حياة ملأى بتحديات جديدة مصيرية.

فمن خلف جدران منزلها المتواضع لمعت الشرارة الأولى لثورة مزارعي التبغ في الجنوب، في عقول المزارعين المنتفضين على الفقر، وفي إحدى غرفه تأسست فكرة منتدى أدباء جبل عامل، أما مساحته السفلى فكانت مخازن لسلاح فدائيي الثورة الفلسطينية، وشرفاته مضافة دائمة لشباب الكتيبة الطلابية والتنظيم الشعبي ورجالات الحركة الوطنية ومبدعي الثورة الإيرانية.

كانت جدتي ، ترعى كل هذه اللقاءات والأحداث بمهارة قائد ميداني، وتدوزن مواعيدها، بحيث لا تتضارب أو تتداخل ببعضها البعض، محافظة على خصوصية كل لقاء وسريته. البيت أوركسترا دائمة العزف وهي قائدتها، البيت خلية نحل نشطة وهي ملكتها، وكل ذلك كان يحدث بكثير من الصمت والحرص من قبلها. لكن جدتي كانت وما تزال تؤثر شهرتها في الطهي على كل ما يسميه من هم حولها أمجادا وتاريخا استثنائيا، لم يكن المطبخ عالمها، بل منطلقها إلى العالم، فيه وضعت بصماتها النسوية، على أحداث مصيرية غيرت العالم، لم تكن يوما رهينة المطبخ، بل كل من كان خارجه منتظرا نضوج طبخة ما ومن خلاله كسرت حواجز الفصل بين عالمي الرجال والنساء، وفي رحابه استدرجت جدي وأصدقاءه إلى كثير من المنازلات والسجالات التي كانت تخرج منها منتصرة على الدوام، واثقة، متحدية العزلة والإبعاد القسري عن الاختلاط الذي كانت تفرضه السلوكيات الدينية في تلك الفترة.

ظلت سعيدة حد الاكتفاء بإعداد صنوف وأنواع الوجبات التقليدية والوافدة، وفخورة بتحصيل ثقافات مطبخية متنوعة تثير حماسة نظيراتها من الجدّات واالأمهات، فيسارعن الى تقليدها والتعلم منها، وغالبا ما كانت تتبارى وجدي على إعداد طبخة عراقية ويلزماننا بعدها بالتصويت المحرج، الذي ينتهي بالثناء على جهود جدي ووضع ما أعده جانبا لأنه غير صالح للأكل، والتهام ما أعدته هي!

المطبخ مملكة جدتي التي تسع العالم، فعبره تسافر بنا إلى المغرب العربي مع “الحريرة” و”الكسكسي والمغربية” و”الطاجين”، وفيه تعود بنا إلى زمن العراق الأصيل مع “لقيمة” و”الفسنجون” و”المسقوف” و”التمن باقيلا”، معرجة على إيران مع “السبزي” و”تشيلو كباب” و”زرشك بولو”، وقبلها كلها الأطعمة الفلسطينية ذات النكهات الثورية اللذيذة مثل “المقلوبة” و”المسخن”، عدا الأكلات البلدية والشامية والأفريقية والعالمية.

في مملكتها تعلمنا فنون الألفة والحوار وتبادل الثقافات بين الشعوب والبلدان. كلما قطعنا عليها خلوتها المطبخية تطالبنا بالخروج والانصراف إلى اهتمامتنا، وفيما كانت شرفة جدي فضاءً رحباً للنقاشات الفكرية والسياسية، حيث يكثر الكلام والاختلاف وأحيانا الخلاف. حوّلت جدتي مطبخها إلى صورة عن الأمومة الحقيقة، فكان أوسع من رحم، تنضج فيه وجهات نظرنا كما تنضج الطبخة على نار هادئة، وتعود تفوح منها روائح المشاركة والتفاعل والانضباط، كما روائح “الزعفران” و”اللومي” و”القرفة”، وتجمع مكونات الطبخة الواحدة وطعمها، ما لا تقدر على جمعه السياسة والدين مجتمعين، في غذاء للروح والجسد، فتتحول التباينات إلى منازلات في الشعر والمفارقات والنكات.

كانت علاقة جدي وجدتي نموذجاً للحياة الزوجية الصحية تجسيداً لقسم “في السراء والضراء”. هي الشريكة الصابرة والمكافحة رغم الفقر والخطر والتنقل الدائمين، وهو المغامر الحالم الثائرالذي لم يتوان يوماً عن إستشارتها والأخذ بنصائحها .وكان جدي يستغل فرصة غيابها عن المنزل، ليحضر طبخة إيرانية اسمها “آب غوشت”، تقتصر على غلي البندورة والبصل والبطاطا واللحم في قدر واحد، ولسبب لم نفهمه جميعاً، أنه رغم سهولة وبساطة هذه الطبخة، إلا أنها لم تكن يوما قابلة للبلع، وكان جدي يحول المطبخ أثناء إعدادها إلى ما يشبه ساحة حرب !
أما أنا، فقد كان الجميع يثني على مواهبي في قلي البيض وكذلك في تنويع الألوان على الطاولة. هذه الطاولة التي جمعتنا وحفظت أسماءنا، شهدت أفراحنا وأحزاننا وجمعت أجيال على أطرافها، سقت حدائق أعمارنا بماء الحياة.

هي سيدة الحب والفن والتوابل، المبدعة الجميلة التي يليق بحضرتها الثناء والحب والشوق… جدتي نادية… كل عام وأنت بخير.

السابق
النظام الأسدي يأكل «صغاره» وآخرهم غزالي
التالي
قضية الشاعرة جومانة حداد تشغل الرأي العام البحريني