صراع بين الطبقات أم داخلها؟

صراع الطبقات ليس محركاً لتاريخنا. لا يحب اليساريون ذلك، لا يحبون الإعتراف به، بقدر عدم حبهم للطائفية وتجاهلهم لها… إلا بما تيسّر من “أدوات تحليل”. ولكن، لا تذهب بعيداً، أنظر إلى الحشود الطائفية المذهبية، قارنها بأي تحرّك مطلبي معيشي، وسوف تلاحظ الفرق بين الحشد الهادر والتجمع المتواضع. بل إقترب من الممْسكين بالقضايا المعيشية هذه، ولن تبذل جهداً ميدانياً أو نظرياً كبيراً، قبل أن تكتشف بأنها موزّعة “حصصاً” بين التكتلات الطائفية الكبرى. ثم انظر إلى الفقراء المتزايدين حولنا، الموزّعين بين هذه وتلك من الولاءات الطائفية، المتناحرين، المتباغضين، المتقاتلين بالسلاح. ومدينة طرابلس الشمالية، أوضح علامة، أكثر العلامات كثافة، عن ان فقراءنا يتصارعون في ما بينهم، كما يتصارع قادتهم وممولوهم، مع فرق مهم واحد: ان الصراع بين الفقراء يودي بقتلى ودمار، فيما الصراع بين الأغنياء يتم “سلمياً”. أي إن الصراع بين الفقراء أكثر حدّة من الصراع بين الأغنياء، أكثر دموية. صراعات الفقراء والأغنياء متوازية، لا تلتقي إلا في اختبارات جدارتها.

ليس هذا فحسب؛ بل ان الديناميكية الخارجة من بطن هذه الصراعات، ومن كل الصراعات التي تشهدها بلادنا، لا تمتّ إلى صراع الطبقات بصلة. يمكنك أن تقول انها صراعات طائفية اثنية، طبعا، وهذه أشد البديهيات وضوحا. كما يمكنك ان تقول انها معطوفة على، أو مختبئة خلف صراعات قومية، حضارية، هويتية، اقتصادية، صراعات من أجل الأدوار والوظائف المشتهاة؛ وجيش هذه الصراعات، رهطه الحاشد، مكوَّن من الفقراء المعدمين.

إذن نحن أمام إمتحان لا بد منه للنظرية القائلة بأن محرك التاريخ هو صراع الطبقات. وعندما تطرحه على حماة هذه النظرية، يجيبونك بأنه، صحيح، في منطقتنا، صراع الطبقات “ضعيف”؛ وهذا عائد إلى ضعف الطبقة العاملة، وإلى “أنماط الإنتاج” عندنا. أي أنه، لتصحّ تلك النظرية، علينا إيجاد مصانع كالتي وصفها فريديريك انجلز، رفيق درب كارل ماركس، في معامل انكلترا في القرن التاسع عشر؛ حيث العمال منظَّمين بحكم المصانع نفسها، متمركزين في نقاط بعينها، يقومون كلهم بما يسميه ماركس “بيع قوة” عملهم مقابل الإستمرار على قيد الحياة، يولدون حول المصانع ويموتون فيها. تقدميون تغييريون بحكم هذا العمل، قادرون على إلتقاط معاني غربتهم بمجرد بدء الكلام معهم. ومن هنا، ينطلقون، بقيادة حزب علّمهم معنى الإستغلال الرأسمالي، ليحركوا التاريخ بثورتهم على هذا الإستغلال. هذه عينة، طبعا، ولكنها لا تخفي ما تقول: من ان صراع الطبقات يسلتزم شروطاً بعينها، تكون متوفرة أحياناً في التاريخ، ولا تكون أحياناً أخرى، بحسب المجرى الذي أخذه هذا الصراع، بحسب أوضاع الفاعلين فيه، بحسب المناخ الفكري أو الثقافي الطاغي عليه الخ. أما وان هذه الظروف غير متوفرة الآن، لا يجب معاملة النظرية وكأنها محبوبة نتعلق بها وفاء لحبها. النظرية ليست سوى قول من بين الأقوال، لا شيء نهائياً فيها، ولا كونياً. بل قد يؤدي هذا الوفاء إلى تشويش إدراك أصحابها لطبيعة الصراع الدائر الآن.

الآن، الحشود، تجدها في مشاهد التهجير الجماعي، أو احتفالات التجمعات الطائفية؛ كلاهما فقير ومعدم، الأول أكثر من الثاني. فيما الأول فاقد للبوصلة، الثاني شديد التلاحم والتنظيم. وإذا كان ما زال القصد من الإهتمام بالناس قائما، ولو على بقايا ماركسية أو يسارية، فالمطلوب، أولاً، معرفة أولئك الناس، بظروفهم الدقيقة وذهنيتهم المنظمة لحيواتهم، معرفة الخفايا العاطفية الهويتية التي تحركهم. وإذا أردنا الإستفادة بشيء من نظرية صراع الطبقات، نضيف، فوق ذلك، سعينا لمعرفة “نمط إنتاجهم”، أو مصالحهم المعيشية؛ كيف يكسبون عيشهم؟ بماذا هم متخصصون، أو بارعون، أو منتجون؟ اللائحة غير مكتملة؛ بل ربما المسألة تستوجب أسئلة أخرى. ذلك اننا، بدايةً، لا نعرف أولئك الناس إلا في الاستقصاءات الأكاديمية، قليلة الغزارة، عديمة الوضوح. وهذه ورشة أخرى مفتوحة على الذين لاحظوا، ولو بخفر، بأن أدواتهم الفكرية الموروثة عن شبابهم، لم تعد تنفع لا لتفسير العالم، ولا بالتالي لتغييره.
(المدن)

السابق
الحكومة تحتوي السجال والفراغ يفرض تطبيعاً إضافياً
التالي
رسائل طائرة من وحي التاريخ…