مَن يحمي رائدة ومَن يُعيد علي؟

ماذا يمكن أن تكتب عن مسرحيّةٍ تبدأ خارج قاعة العرض ويمتدّ “مداها الحيوي” من بيروت إلى القدس إلى تونس ويُقيم بطلُها الآن تحت أرض مدينة الخليل ويقوم بأدائها “طاقمٌ” من الممثِّلين والممثِّلات هو… امرأةٌ واحدة، ويخرج الجمهور من المسرح سعيدا كأنّه خارجٌ من عرس مع أنه كان يشارك في مأتم؟

هل يمكننا القول أن نص رائدة طه وإخراج لينا أبيض في مسرحيّتهما “ألاقي زيَّك فين يا علي” قد ساهما في تكريس “المسرح الوثائقي” العربي على غرار ما يسمى “المسرح الوثائقي” في الغرب وعلى غرار ما هو متعارَف على تسميته “الفيلم الوثائقي” أو “الروائي الوثائقي” في السينما؟
الجواب:
نعم… ولا… تُشبِه النعم.
فالجهد التوثيقي الذي قامت به الكاتبة والمخرجة لا شك أنه مُضنٍ وكبيرٌ وتنتشر وثائقه كتحقيقٍ صحافي جاد على جدران ردهات المسرح الموصلة إلى قاعة العرض. إنها “رواية” سيرة ذاتية لابنة “فدائي” فلسطيني (كما كانت التسمية في سبعينات القرن الماضي) فقدت والدها علي في مطار اللد في إسرائيل بعد مشاركته في خطف طائرة عام 1972 من تلك العمليات الفلسطينيّة التي كانت سائدة بهدف إطلاق مساجين فلسطينيّين والتي كانت تحظى بموافقة قيادة “فتح” الضمنيّة والأرجح بإعدادٍ منها تحت اسم علني هو “منظمة أيلول الأسود”.
إذن هو “الواقع الأكثر مسرحة” إذا استعرنا هذا التعبير من الناقدة المصريّة وأستاذة المسرح الدكتورة نهاد صليحة استخدمته في مجال مختلف لا علاقة له بهذه المسرحية. هكذا تروي لنا رائدة طه في نصِّها الذي مسْرَحَتْه لينا أبيض تاريخَ حياتِها وشقائها ووالدتها الأرملة وشقيقاتها الثلاث في بيروت ودور ياسر عرفات الأبوي الذي رعى عائلتها… كل ذلك انطلاقاً من أحداث متداخلة الزمن إلى الأمام والوراء تفتتحها المسرحية من تونس لرائدة الشابة التي تتعرض لمحاولة اغتصاب من فلسطيني نافذ ستشكوه إلى ياسر عرفات حتى نجاح عمّتها في القدس باستعادة رفات والدها ودفنه في الخليل بعد سنوات على مقتله وبين الحدثيْن مسار  طويل في بيروت.
إنه إذن تأريخ سياسي وشخصي لجوانبَ لا نعرفها في مسار الحركة الفلسطينية المعاصرة مجبولةٍ بقالب درامي، السخريةُ فيه أعلى لحظات الدرامية. لهذا هي عمل توثيقي عن أشخاص وأحداث وبيئات وهي عملٌ مسرحي درامي مونولوجي نقدي معاً يتكامل فيه بوضوح تأثيرُ المخرجة مع أداء الكاتبة – الممثِّلة.
مجبولٌ  كل شيء في هذه المسرحية الرائعة ببعضه البعض في تناسق مدهش: شجاعة نقد العلاقات الاجتماعية داخل مجتمع “الثورة الفلسطينية” بشجاعة النقد السياسي الناضج والدقيق والسلس دون حضور غليظ للسياسي والطفولة ببراءتها الكاملة وسط بحر الدم الجاري بالتجربة الشخصية للكاتبة الممثِّلة كإمرأة حرة، المسرحيةُ هي أحد أشكال تأكيد حرّيتها ووو…
من ميزات هذه المسرحية أنها قد تكون إحدى  علامات نضج الشعب الفلسطيني ليس الفني فقط بل السياسي أيضا. فالفلسطيني الذي ينتمي إلى تجربة شعب لا تُشبه غيرها يؤكِّد في هذه المسرحية قدرته على التهكّم على نفسه فرديا وجماعيا. كل “جماعة” تصل إلى هذه القدرة من التهكّم على الذات تكون قد قطعت شوطا كبيرا في تبلور نضجها كأفراد وكجماعة. خصوصا إذا كانت هذه الجماعة بسبب ظروفها ممتلئة بمحظورات قوة مظلوميّتها. أتذكّر هنا فيلم ايليا سليمان “يد إلهية” الذي فاجأني بمستوى جرأة نقده للتكوين الفردي في المجتمع الفلسطيني المسمّى عرب 1948. فإيليا سليمان يقيم فيلمه على تشوّهات الشخصية الفلسطينية التي جعلتها التجربة غير العادية غليظة وسادية، بل إنه في المشهد الرائع على الحاجز الإسرائيلي يقدِّم هذه “الغلاظة” الفردية على أنها أحدى أدوات النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي. رائدة طه ولينا أبيض في مجتمع الشتات والضفة الغربيّة يحوّلان هذ الغلاظة الفرديّة إلى طرافة (هضمنة) لا تنتزع ضحكاتنا بل تفجّر بتلقائيّة هذا الضحك الذي يجعلنا نخرج – جميعا كمشاهدين – سعداء بالمعنى الحرفي للكلمة. هكذا يتحوّل مأتمٌ للموت الفلسطيني إلى عرس كبير من الفرح والتهكّم محتفظاً بكل عمقه المأساوي والتزامه الأخلاقي واندفاعه الوطني.
يبدو أن في التعبيرات الفنّية للتجربة الفلسطينية المعاصرة سراً كبيراً، مسرحية رائدة طه ولينا أبيض تأكيدٌ على هذا السر: الفردية الشديدة المتوازية مع الجماعية الشديدة. أليست هنا عبقرية محمود درويش الشعرية خصوصا مع تقدّم تجربته الفنية في العشرين عاما الأخيرة من نتاجه: فرد بمشاعره النفّاذة والمبدعة والكونية متداخلةً مع تعبيره الدائم الخلّاق عن جماعية تجربة شعبه. لهذا سكن درويش “روح” شعبه مثلما اخترق في الكثير من قصائده روح أفراد راقين من كل المجتمعات والقارات.
إذا كان لا يجوز أن نستبق نتائج تجربة عرض هذه المسرحية على مسارح بلدان أخرى بلغتها أو بلغات مختلفة، وستُعرَض في تونس قريباً، مع ذلك فإنها تبدو من حيث تداخل الفردي الانساني بالجماعي الفلسطيني والعربي امتداداً  لهذا “السر” الفلسطيني الذي تنتمي إليه وربما أسّسته تجربةُ محمود درويش الشعرية. والشغف  الأكبر سيكون أن نعرف ذات يوم كيف استقبلت النخبة الإسرائيلية هذا العمل، إن لم يكن مسرحاً فلْيكن نصّاً على الأقل، لأن المسرحيّة عملّ من قلب قلب الصراع الضاري بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين. فهل سيصل رقيُّ الإنساني ونفاذُه إلى وراء الخطوط النفسية للعِداء ويستحصل الحوار والبنية الدرامية على الاعجاب الفنّي بعمل “عدو” من “عدوِّه” كما يحصل للأعمال الفنّية الكبيرة؟
تنبعث رائحةُ “عالميّةٍ” ما من هذه المسرحية. هنا أيضا ربما يتمكّن الإبداع من جعل “المحلّية” عالميّةً. إنها احتمال عالميّةٍ يدفع بفضول شديد إلى انتظار أمرين متلازمين: أولا قيام جهةٍ قادرة ما على تأمينِ عرضِها على مسارح في القاهرة وباريس ونيويورك وغيرها بلغتها الأصلية ومستقبَلا بلغات أخرى، وثانيا طباعة النص العربي المُمَسرح بذاته وإصداره في كتاب يمكن أن يُتَرجَم بدوره.
قدّمت لينا أبيض ورائدة طه – كي لا ننسى – جزءاً من تاريخ بيروت في هذا العمل. وأجادت رائدة  تقليد نمط الكلام “الفرنكوفوني” في بيروت في واحدة من أظرف مقاطع العمل وأكثرها قوة ساخرة على التجربة الفلسطينية: عندما تعرف المديرة في مدرسة لبنانية كانت نُقِلت إليها مع شقيقاتها من مدرسة فلسطينيّة في بيروت أن فتاةً صغيرة  تحدِّث زميلاتها في الصف عن أبيها الذي “يخطف طائرات” فتتصل المديرةُ بأمها لتقول لها أن بنتك تُهَلْوِس بأمور غير طبيعية وغير مفهومة ولا يجوز بقاؤها في المدرسة! أو حين تعبِّر طفلة فلسطينيّةٌ من أصدقائها عن رغبتها في أن تصبح “ابنة شهيد” لكي تحظى بامتياز السفر السياحي إلى الكثير من بلدان العالم وهو الامتياز الذي كان يحظى به “أبناء الشهداء” الفلسطينيّين مثل رائدة.
لحظات كثيرة أُخرى لا نملّ معها مطلقاً على مدى ساعةٍ ونصف الساعة، تقدّمها ممثّلة واحدة جالسة معظم وقتها وحين تقف مرّةً فلكيْ ترقص على إيقاعات أغنية فلسطينيّة حماسية حاملة معها قامةً متناسقة وعقلا ساخرا وألماً عظيما وثقافةً ناضجة.
أخيرا لي عتبٌ وحيد على رائدة طه ولينا أبيض، الأولى لأنها لم تقف كثيرا على المسرح بعد انتهاء العمل لنصفّق لها مدةً أطول ولينا التي لم تقف أبدا. وتصفيقٌ طبعاً لكل فريق العمل في مسرح بابل الذي يبلغ أحد عشر شخصاً من دون المخرجة والممثِّلة.

(النهار)

السابق
دعوات خبيثة لتشغيل مكالمات Whatsapp
التالي
بالصور: والدة مايا دياب في أول ظهور لها.. من الأجمل؟!