تكريت: تكريس العنف لا إنهاؤه

بات من المسلّم به أن لا مفر من استخدام القوة لوقف توسّع تنظيم داعش ثم إضعافه، وتحرير المناطق التي يسيطر عليها في سوريا والعراق، لكن من الضروري ان تخضع هذه القوّة للموازين الاجتماعية والطائفية والعشائرية وحساسياتها.

ذلك أنّ سيطرة التنظيم الإرهابي على هذه المناطق، لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت نتيجة عاملين:

أولاً، الفراغ الذي نتج عن قلة الإمكانيات لدى مقاتلي الثورة السورية في منطقتي الرقة وريف حلب الشمالي.
ثانياً، الغياب المقصود أو المفتعل للدولة العراقية، في عدد من المناطق، التي لم تستسغ فكرة الخضوع للسلطة المركزية في بغداد بعد خسارتها امتيازاتها ونفوذها في الدولة ومؤسساتها، إثر سقوط نظام صدام حسين في 2003.

فقصر النظر السياسي الذي تمارسه السلطة العراقية، والقرارات الخاطئة التي تتخذها على مدى السنوات العشرة الأخيرة، منها قرار حلّ الجيش العراقي، واستبعاد المكون السنّي من الشراكة الفعلية بالقرار، ثم الفشل في إعادة استيعاب البعثيين غير المرتكبين، والإنتقائية التي رافقت إعادة استيعاب ضباط الجيش السابق، وفشل المصالحة الوطنية، والإنقلاب على الصحوات، والاعتقالات العشوائية، وزجّ الموقوفين بسجني بوكا وأبوغريب، حيث تشكلت فروع هذا التنظيم، واختيار العنف سبيلاً للتعامل مع مطالب المعتصمين في ساحات الانبار، كلها عوامل وفرت مناطق حماية غير معادية لتنظيم داعش، سهلت له بعدها السيطرة على أجزاء واسعة من أرض العراق، في عملية حفلت بالكثير من الشبهات.

رغم هذا، هناك مسؤولية كبيرة تقع في الوقت نفسه، على عاتق المكوّن السنّي العراقي المستقل، الذي سيطر عليه القلق والخوف من المجهول، ما دفعه إلى التغاضي عن ممارسات البعث والقاعدة الإجرامية. يضاف الى ذلك تعثّر نخبه السياسية في تمثيل مصالحه، وفشل الرعاية الإقليمية، فتم استدراجه إلى دائرة العنف، من قبل جماعات البعث الصدامي المتحالف مع داعش، الذين خسروا امتيازاتهم وحولوها الى خسارة سنّية جامعة.

من هنا يترافق التراجع العسكري لتنظيم داعش مع بدء الحملات الجوية، وتقدم القوات العراقية على الكثير من الجبهات الفرعية، مع تصاعد لحدة العنف والعنف المتبادل بين المكونات العراقية، بسبب تخوف سكان هذه المناطق من حالات عقاب جماعي قد يتعرضون لها، من قبل بعض المليشيات المشاركة في القتال.

عملية تحرير تكريت لم تزل في بدايتها، بيد أن هناك مناطق تم تحريرها بالفعل، لكنها بدأت تسلك فيها الأحداث مسلك العنف والعنف المضاد، نتيجة الفظائع التي ارتكبها داعش بعد سيطرته عليها، وقيامه بعمليات تصفية عرقية ومذهبية، التي راكمت عند الطرف الآخر رغبة ملحّة في الانتقام، فشرع بالقيام بالأفعال نفسها التي مارسها داعش، وهذا الطرف متّهم حالياً بالتهجير القسري للسكان، وبعمليات إعدام ميدانية دون محاكمات، الأمر الذي سيرمي بالعراق بكافة مكوناته، في دائرة الانتقام والانتقام المضاد.

كان بالإمكان الالتفاف على هذه المسألة، لو كانت الأُمرة النهائية في أرض المعركة تخضع لمؤسسات الدولة العراقية العسكرية والأمنية، وليس لرؤية قادة الميلشيات المشاركة في المعركة، المعروفة بالحشد الشعبي، الى جانب الجيش العراقي.

كما أن المشاركة العلنية لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني الجنرال قاسم سليماني وجنوده، اضافة الى متطوعين شيعة غير عراقيين، في المعارك ضد داعش على أرض العراق، بدأت تستفز جهات رسمية عربية، فسارعت للتعبير عن استيائها باتهام الإدارة الأميركية بأنها تقوم بتغطية ميلشيات شيعية، تستبيح مناطق سنّية، الأمر الذي سيترجم رفضاً مطلقاً لدخول هذه القوات إلى تلك المناطق، وهذا سيوفر بالتالي، للبعث الصدامي وداعش غطاء محليًا، وسيساعدهما على إعادة ترتيب مواقعهما، والتحضير لدورة عنف جديدة.

كما في العراق، كذلك في سوريا، لا يمكن الاستعانة بمكوّن طائفي لضرب مكوّن طائفي آخر. لا يمكن الاستعانة بالأسد لضرب داعش، كذلك لا يمكن أن يشارك قاسم سليماني ومليشيات الحشد الشعبي لضرب داعش في العراق.

إن الاستعانة بمقاتلي الجيش الحر وبعض الفصائل الاسلامية المعتدلة هو الحل الأنجح في سوريا، كما أن الاعتماد على القوات الحكومية العراقية والتسليح الجدّي لقوات الحرس الوطني والعشائر في المناطق الغربية، يمكن أن يخفف من درجة العنف المتزايد، إضافة إلى الأخذ بعين الاعتبار المصالح العربية في النزاعين السوري والعراقي، عدا ذلك هو تكريس لدورة عنف جديدة وإعطاء ذرائع قوية لقوى التطرف بانها المدافع الوحيد عن الغزو الجديد، والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي.

ضاف الى كل ذلك، تزعزع التحالف الدولي ضد داعش، الذي تشكّل الدول العربية السنّية قوة وازنة فيه، والتي أصبحت تشعر بالغبن، لاعتقادها أنّها تقدّم من خلاله غطاءً جوّيًا للتوسّع الإيراني البري في العراق وسوريا، ويتبع ذلك استياء شعبي عربي عارم، لن يتقبّل الأمر وسيعود ليعبّر عن نفسه مرة جديدة بعدة أشكال تكون الوصفة لداعش المقبلة.

(ناو)

السابق
مايا دياب: جميع من حولي تخلوا عني بسبب «الداعشي»
التالي
البيت الابيض يتلقى رسالة بريدية تحتوي على مادة السيانيد السامة