بعض من سيرة الشيخ محمد خليل دبوق

كان الشيخ محمد بن خليل دبوق (كما قال فيه المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين في “أعيان الشيعة”) “عالماً فاضلاً، شاعراً، اديباً، تقياً، ورعاً خشناً، في ذات الله، مرناً في دفع الغيبة وفي الإقناع. وكان مليح النادرة منشداً للشعر.. تفرع من أبٍ فقير عامي فنبغ بجِده لا بأبيه وجَده..”.

ويُضيف السيد محسن بأن الشيخ كان شريكه في الدرس في أول الاشتغال في جبل عامل، وسافر إلى العراق بزيّ الدراويش ثم عاد إلى الجبل ثم سافر مجدداً إلى العراق لطلب العلم، وعاد منها بسبب انحراف مزاجه عام 1308 هـ (1890 م)، ثم اشتغل في مدرسة شقراء على السيد علي محمود الأمين ثم توطن دمشق مدة فانتفع به أهلها. وبعدها عاد إلى مسقط رأسه خربة سلم وتوفي فيها سنة 1317 هـ (1899م).

ولقد عنى السيد محسن كل كلمة قالها في الشيخ محمد ولا سيما من حيث تقواه وخشونته في الله وفي تفننه في الإقناع وفي دفع الغيبة؛ وأنا أضيف: وفي جرأته الأدبية! فمن قبيل هذه “أن خليل بيك الأسعد زعيم جبل عام في وقته، وجه سؤالاً إلى العلماء، وكانوا نحواً من إثني عشر عالماً، وكان من جملتهم الشيخ محمد دبوق، وكان في أخريات القوم، عن حكم الصيد، فأحجموا، فأجابه الشيخ محمد دبوق رحمه الله” أن صيدا مثلي حلال، لأنني أتقوت به أنا وعيالي، وصيد مثل البيك حرام لأنه صيدا لهو”. وأفاض في توضيحه، فانتظر العلماءأن يبطش به البيك، فقال البيك من هذا المتكلم؟ فقال له: محمد دبوق من خربة سلم، ووالدي سكّاف وأنا سكفت في أول عمري. فالتفت البيك إلى العلماء، وقال: أصحيح ما قال؟ فقالوا: نعم. ففكر، ثم قال البيك للشيخ: من أين تعيش؟ فأجابه: إن الذي خلقني تكفل بزرقي. ثم إن البيك أقطعه أرضاً، وقربه، وأدناه، ثم قال للعلماء: إنني مؤمن، فلماذا تبخلون عليّ بالنصيحة..؟”

تقواه

أما من حيث تقواه، فإنه كان لا يرفع بصره إلى امرأة مستترة كانت أو سافرة. وإذا التقى النساء في الطريق أدار وجهه إلى الحائط حتى يذهبن. ويضيف أهالي قريتي أن النساء كن إذا لمحنه مقبلاً يجلسن القرفصاء ويضربن بتنانيرهن على أقدامهن فلا يرى من الواحدة منهم إلى وجهها، ثم ينهضن بعد أن يتجاوزهن.

وقد دعاه مرة أحد إخوانه من أهالي تبنين – وهو الشيخ أحمد بري – إلى الغداء، وقال له اقترح. فاقترح ورق العنب المحشو باللحم وغيره. فلما وضعه بين يديه تناوله بشوق، ثم رفع يده عنه فجأة. فسأله مضيفه عن السبب: هل فيه عيب؟ فقال: لا، إنه في غاية الجودة ومن أجل هذا تركته، لأني رأيت نفسي الخبيثة اندفعت إليه!

ولقد سمت به هذه التقوى إلى مستوى “الكرامات”. فالشيخ محمد تقي الفقيه يروي نقلاً عن رجل معمر من مركبا (هو محمد سعيد الصباغ) أنه لما كان صغيراً انحبس المطر طويلاً، فاجتمع الناس في مفترق الدروب بين مجدل سلم وقبريخا والصوانة لصلاة الاستسقاء، وكان فيهم نحو أربعين عالماً. فاختاروا تقديم الشيخ محمد دبوق للصلاة وكان أصغرهم سناً فجعلوا يلحون عليه بالصلاة وهو يمتنع، وساقوه للإمامة سوقاً..

ويضيف ذلك المعمر قائلاً: “فتخللت الناس وتقدمت لأراه فنظرت إليه وعيناه تنهملان بالدمع، فقال: “ربي أمطرها، وهذه عمامتي” وجلد بها الأرض. وما هي إلا هنيهات حتى اسودت السماء وهطلت الأمطار حتى “رَوَت وَربَت”. ومن ذلك الوقت سمي ذلك المكان بين تلك القرى بـ”المصلية”.

وهكذا فغير عجيب ان يصلي علاّمة أستاذ وراء عالم من هذه الطينة. فقد حدّث المرحوم الشيخ يوسف الفقيه أنه “عندما كان طالباً في مدرسة عيناتا أن الشيخ محمد دبوق جاء لزيارة أستاذهم المرحوم السيد نجيب فضل الله، فاهتم به، وأمر الطلاب بالصلاة خلف الشيخ، فامتنع الشيخ ثم قبل بعد إلحاح، وصلى السيد خلفه في آخر صف لئلا يشعر به الشيخ، فلما علم الشيخ، قبّل يده واعتذر، فقال السيد(ره): “أرجو أن يحل الله عني عقداً يوم القيامة بهذه الصلاة، ويبارك قلوب هؤلاء الذين ائتموا بك..”.

وغير عجيب، من بعد، أن يكون لقب “الشيخ المقدس” الذي عرف به الشيخ محمد بين العلماء تعبيراً عن واقع حال لا مجرد لياقة وأدب من عالم لعالم. ويضيف الشيخ محمد جواد مغنية (الذي نعته بالقديس الأكبر) إن إرادة الله القدسية تتجلى في شخصه بأجل معانيها، إذ كان رفيعاً في تواضعه غنياً بكرمه الناطق بزهده وتصوفه. وإن زهده كان لله لا للناس… وقد كان عنده – هو في المدرسة – مخدة حشوها “رويشة” أي نخالة، مربوطة بخيط. وأما كرمه فقد كان يجود بالشيء وهو أحوج الناس إليه. وينقل الشيخ محمد جواد مغنية أن الشيخ أحمد رضا (صاحب “متن اللغة”) حدثه عن الشيخ محمد فقال: كان سائل قد وقف عليه يوماً ولم يكن عنده ما يعطيه له، فأعطاه ساعته الوحيدة!

وأعطاه رجل صرة فيها دراهم، وقبل أن يفتحها ناولها لمحتاج التقاه.

ويروي أهالي قريتنا بأنه رأى امرأة على رأسها خرقة بالية، وإذا لم يكن لديه ثمن “منديل” (غطاء للرأس) ليشتريه لها، قاسمها عمامته البيضاء. وغالباً ما كان يفعل ذلك حتى قالوا فيه: “بيروح بعمامة بيرجع بطاقية”!

وأما من حيث مرونته ولباقته في دفع الغيبة وفي الإقناع، فقد كان مثالاً ممثلاً: فهذا صاحب “العرفان” (الشيخ أحمد عارف الزين) يورد أن الشيخ محمد كان بين جماعة من العلماء فاستغابوا إنساناً.

وهذا هو أيضاً في مقام النبي يوشع في فلسطين – كما روى لي السيد حسين نور الدين (وهو ثقة من أهالي ضيعتنا) – وقد كان ورهطاً من العلماء في زيارة ذلك المقام في موسمها، فقيل لهم: “الشباب والصبايا معمرين الدبكة فرخة وديك”! فثارت ثائرة العلماء وذهبوا – إلا هو – واحداً واحداً إلى حلقة الدبكة زاجرين مؤنبين… فلم يُسمع لهم. عندها رد الشيخ عباءته على رأسه وأقبل على الحلقة مسلماً محيياً: “يعطيكم العافية يا شباب، بارك الله في هذه الوجوه الأنيسة الجميلة، أليس حراماً أن تحترق غداً بنار جهنم”؟ فخجل الجمع، وانفرط العقد، وانصرفوا.

وأخيراً، لا مندوحة لي – وأنا أحب الشعر – من أن أذكر بأن الشيخ – رحمه الله – كان شاعراً مطبوعاً يرسل القول عفو البديهة صافياً سلساً، وأن شعره، وإن لم يطبع في ديوان، وإن لم يصلنا منه إلا النزر القليل، ينم عن طيبة نفس مؤمنة صادقة بريئة في آن.

وأما آخراً، فمن العجب المعجب أن ينعى نفسه بنفسه وأن يكون ذلك بالشعر أيضاً. فقد كتب في مرضه قصيدة أرسلها إلى العلامة السيد علي محمود الأمين في شقراء يخبره فيها باقتراب أجله (وقد كان لما يبلغ الخمسين).

ولما قرأ السيد علي محمود القصيدة قال: “يرحمك الله” يا شيخ محمد… قوموا بنا إليه، يا منلحقوا يا ما منلحقوا”.. وعندما وصل السيد وصحبه إلى مفرق “بين الدروب” شرقي خربة سلم، سمعوا أصداء التهليل والتكبير، إذ كان الشيخ قد قضى نحبه في الأثناء، فألحده السيد علي محمود بنفسه وخاطبه قائلاً: “اذكرني عند ربك يا شيخ محمد”. ويقال إنه أخذ حفنة من تراب القبر فنقص التراب عن مدى سطح القبر… والله أعلم!

وفي النهاية، لا أجد ما اختم به كلامي عن الشيخ التقي محمد دبوق أفضل مما ختم به الشيخ محمد جواد مغنية كلامه عنه، فأقول معه: “إن الشيخ محمد دبوق لم يكن من صنع البيئة ولا المدرسة، وإنما خلقه الله سبحانه من نوره ورحمته ليكون مثالاً محسوساً لكل ما أنزله على نبيه محمد(ص) من أركان الدين والإيمان وأحكام الشرع والإسلام. تذهب إلى الصائغ ليصنع لك خاتماً على شكل خاص، فتارة تعبر له عن إرادتك بالوصف والكلام، وتارة تريه خاتماً وتقول أريده كهذا، والله عز وجل أباه الحق إلى عباده بكلا الطريقين تأكيداً للحجة، وإبلاغاً في الإعذار والإنذار… والشيخ محمد دبوق من هذا النموذج الإلهي الذي يحتاج إليه الدين والشريعة ليتم به البيان، وتكمل به الحجة وتبلغ أقصى درجاتها وغاياتها”.

هذا، مع التذكير بأن وفاة الشيخ محمد كانت سنة 1899 وأن احفاده أقاموا قبة بيضاء على قبره سنة 1960.

(من كتاب: أعلام وأقلام من قريتي) للسفير جودت نورالدين
السابق
رلى أمين الأم التي أهدتنا.. خيبتنا
التالي
الحوثيون يُحكمون السيطرة على مراكز الجيش وخطة طوارئ في عدن