خريطة الفاعلين السُّنَّة في لبنان: التركيبة والتوجهات

لبنان

أظهرت الفترة السابقة، وتحديدًا منذ اغتيال رفيق الحريري عام 2005، صعودًا شعبيًّا لتيار المستقبل، سمح له بالصدارة في قيادة المكون السنِّي، ثم تعرض للتراجع بفعل التحديات الإقليمية والمحلية التي واجهته، وأخذ فاعلون سنَّة آخرون تدريجيًّا يقومون بأدوار جديدة أو أكبر لم تُتح لهم سابقًا، وخاصة إبَّان رئاسة نجيب ميقاتي الأخيرة (2011-2013، واستمرَّ بتصريف الأعمال لعام 2014) وبعد إسقاط حكومة سعد الحريري(2011)، واليوم مع الحوار الذي يجري بين تيار المستقبل وحزب الله وفي ظل حكومة تمام سلام المدعومة من تيار المستقبل، يعود التساؤل حول أدوار ووظيفة هؤلاء الفاعلين السنَّة في المشهد اللبناني، لاسيما مع نشؤء بعض التنظيمات المتشددة دينيًّا في الجوار السوري من جهة وتصاعد النفوذ الإيراني في لبنان والإقليم من جهة أخرى، وما لذلك من تأثيرات  كبيرة على مستقبل المكون السنِّي في لبنان والإقليم وعلى علاقته ببعضه البعض أو مع الطوائف الأخرى(1).

تتسم الساحة السنِّية اللبنانية بالتعدد من حيث البُعد التنظيمي، ويتنازعها في الغالب تيارات مرنة أكثر مما هي تنظيمات حديدية أو حادة أيديولوجيًّا، ربما لأنه يغلب على السنَّة عدم التركز طائفيًّا في مناطق خاصة دون غيرهم، ويمتازون بالاختلاط الواسع مع المكونات اللبنانية الأخرى لاسيما أنهم توزعوا على المدن الكبرى مثل بيروت وطرابلس وصيدا(2)، فضلًا عن انخراطهم التاريخي في “المقاومة” الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي ومجاورتهم له في فلسطين. وبهذا تعددت أوجه الفاعلين السنَّة تاريخيًّا، وهي كذلك اليوم. وبالنظر إلى فعاليتهم في الشأن المحلي وقدرتهم على نسج علاقات قوية مع الإقليم يمكن حصرهم في ستة فاعلين أساسيين، هم: تيار المستقبل، وهو الأكبر وذو طبيعة انتخابية، والجماعة الإسلامية، وتمثل الطابع الأيديولوجي للمنتمين للمكوِّن السني، وهيئة العلماء المسلمين، وهي أبرز ممثل غير رسمي لعلماء “السنَّة” حتى اللحظة، وهناك الأحزاب القومية السنِّية التي التحقت بغالبيتها بقوى 8 مارس/آذار، إضافة إلى مواقع أخرى هي جزء من بنية الدولة مثل رئاسة الوزراء ودار الإفتاء، مع التنويه بوجود أدوار هامشية لجمعيات أهلية بعضها ديني وبعضها روابط عائلية ومناطقية ليست محل اهتمام هذا التقرير لضعف بنيته وتأثيرها(3).

تيار المستقبل

تعود جذور تيار المستقبل إلى الكتلة الانتخابية لرئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وكان التأسيس الرسمي له برئاسة ابنه سعد الحريري في 9 أغسطس/آب 2007(4)، ويمثل المستقبل السنِّيَّة السياسية التقليدية في لبنان المتماهية مع النظام العربي عبر البوابة السعودية وما كان يُسمَّى محور “الاعتدال العربي”. تظهر قوة المستقبل باعتباره يمثل الوجهة الانتخابية للأغلبية السنية دون منازع في الطائفة وذلك ليس لقوته الذاتية فقط، بل لعدم رغبة أو قدرة الأطراف الأخرى في الطائفة على الولوج إلى “بِنية السلطة” اللبنانية حيث هي الساحة الحقيقية للتنازع أو تقاسم الغنائم من قِبل الطوائف اللبنانية. فالسلطة في لبنان ليست مجرد ناتج لما يقدمه الصندوق الانتخابي من تعبير عن وجهات نظر القوى المحلية وسياساتها بل إن قواعد اللعبة تعكس توازنات إقليمية ومن ورائها توازنات دولية، وهذا ما جعل الحياة السياسية اللبنانية مكلفة جدًّا وتحتاج لأموال طائلة وإدارة علاقات خارجية مع دول، وليس مجرد الاكتفاء بنشاطات محلية في إطار الدولة الوطنية، وذلك خاصة بعد تعزز النفوذ الإيراني والسعودي بإمكاناتهما الكبيرة في مواجهة بعضهما البعض، فانعكست الثنائية الإقليمية لطهران والرياض تقابلًا محليًّا لحزبين كبيرين: حزب تيار المستقبل وحزب الله.

يعتمد التيار في سياسته الداخلية على المزاوجة بين الشراكة لضرورات التعايش الوطني والنقد القاسي لحزب الله -سواء لدوره في الحكومة أو لدوره الأمني الموازي لسلطة الدولة الشرعية- واستمالة الخصوم الآخرين من قوى 8 مارس/آذار كالتيار الوطني الحر وحركة أمل، وتحصين تحالف قوى 14 مارس/آذار مع ضبط الساحة السنِّية والفاعلين فيها بما يتوافق مع سياسته ومتطلباته المحلية وفي الإقليم.

وتقوم رؤيته السياسية على بناء الدولة في مقابل حلِّ الميليشيات، وحصرية سلاح الدولة في مقابل انتشار السلاح غير الشرعي ومنه ما يُسمَّى “سلاح المقاومة”، وعلى “الاعتدال الوطني” و”الديني” في مواجهة “التطرف السياسي والديني”؛ لذا فعضويته التنظيمية “عابرة للطوائف”، وعلى الانتماء العربي للُبنان كإشارة إلى أولوية التواصل مع المحيط العربي في مقابل أي انتماء آخر. وهذه السياسة لتيار المستقبل تضعه بإجماع الأطراف اللبنانية في موقع النقيض لقوى الثامن من مارس/آذار سواء من حيث الرؤية أو الممارسة، وخاصة في مقابل حزب الله بسبب الذراع المسلحة لهذا الأخير وأجندته الإقليمية التي منها تدخله في سوريا ودوره المتعاظم في الإقليم وعلاقته الخاصة مع إيران.

ولكن بعض الصفات الإيجابية التي يعلنها تيار المستقبل، مثل: مفهوم “الشراكة” و”الاعتدال” ليست بالضرورة هي التعبير الصحيح المسلَّم به لوصف تيار المستقبل وأهدافه، ولا يقبلها أطراف آخرون ومنهم بعض الفاعلين السنَّة الذين يرون أن تيار المستقبل يريد احتكار التمثيل السياسي السنِّي لنفسه دون “شراكة” من الآخرين، ويريد حصر رئاسة الوزراء بسعد الحريري أو بمن يرضاه ويمنعه عن غيره، وأن “الاعتدال” الذي يروِّج له أصبح مؤخرًا، خاصة في ظل حكومة الرئيس سلام، موجَّهًا ضد “التيار الإسلامي السنِّي” حصرًا.

الجماعة الإسلامية

تكاد الجماعة الإسلامية تكون الكيان اللبناني الإسلامي الوحيد الذي يمارس دورًا سياسيًّا ويمثل شريحة واسعة من السنَّة بعد المستقبل، ويرأسها حاليًا إبراهيم المصري. تأسست رسميًّا عام 1964 وتنتمي لمدرسة الإخوان المسلمين في ثقافتها الدينية. برزت كقوة مستقلة انتخابيًّا بعد أول انتخابات تَلَت الطائف عام 1992(5)، ثم أصبحت بعد الانسحاب السوري من لبنان عام 2005 أكثر ارتباطًا بتيار المستقبل في أدائها السياسي بسبب ضعف وجودها في بنية “السلطة اللبنانية”، ولتشاركها مع المستقبل في الجمهور المستهدف، أي: “الجمهور السني”، وتبنَّت مقولاته الأساسية في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري (2005) لاسيما مواقفه إزاء “بناء الدولة” بنزع سلاح المليشيات و”محاكمة” قتلة الحريري ولاحقًا التقت معه في دعم الثورة السورية (2011). ويمكن اختصار دور الجماعة الإسلامية على الصعيد المحلي في أنها التعبير المحافظ عن سنَّة لبنان حتى عندما يختلف بعضهم معها سياسيًّا، لأنها تمثل الطموحات الدينية للمجتمع السنِّي المتدين من جهة، وتشكِّل داعمًا إضافيًّا للسنِّيَّة السياسية عند تلاقي الديني والسياسي، أي إنها تُسهم في الحفاظ على الجوهر الديني للسنَّة وبنفس الوقت هي قوة احتياط سياسية بالنسبة لهم، وهذا ما يجعلها أكثر نخبوية وقوة متوسطة تقف وراء الفاعلين أو الفاعل السني الأول. إلا أن الجماعة قد تتحول إلى عقَبة لتيار المستقبل لأنها ليست مرتبطة بالسياسة السعودية ارتباطًا وثيقًا، كما أن اقترابها من إيران أو بُعدها عنها مبني على حسابات خاصة بمصالحها السياسية وبمنظومة قيمها الأيديولوجية؛ حيث كانت أقرب إلى “محور المقاومة” وإيران إلى أن اجتاح حزب الله بيروت عسكريًّا عام 2008، ثم أصبحت في مواجهة معه مع اندلاع الثورات العربية عام 2011 التي جعلتهما متواجهين. وتسببت الثورات أيضًا بجفاء ولو لفترة قصيرة، في علاقة الجماعة بالسعودية خلال حكم الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز؛ حيث وضعت الرياض حينها حركة الإخوان العالمية على لائحة المنظمات الإرهابية(6)، ولكن هذا لا ينفي أن الجماعة تحرص على الانسجام مع السياسة السعودية في الإقليم ما استطاعت، أو على عدم الاصطدام مطلقًا معها باعتبارها الراعي العربي الأكثر التزامًا بسنَّة لبنان، والأكثر فعالية في الساحة اللبنانية سواء اتفقوا معها أم اختلفوا. وهم يقدِّرون أن السعودية تدرك أو يجب تدرك أن أولوية الجماعة الإسلامية في لبنان المتمثلة بحفظ المكون السني اللبناني وتنمية دوره المحلي والإقليمي تتقدم على أية مصلحة أخرى ولو كانت تتصل بمصير حركة الإخوان المسلمين في المنطقة.

هيئة العلماء المسلمين

تضم هيئة العلماء المسلمين علماء وشخصيات دينية من التيار السلفي والجماعة الإسلامية وعلماء من دار الفتوى انضموا إليها كمستقلين فضلًا عن آخرين مستقلين استقلالًا تامًّا. تأسست عام 2012(7) لدعم الثورة السورية وبعد سلسلة من الأحداث أوصلت أهم الفاعلين السنَّة وعلى رأسهم تيار المستقبل إلى أدنى درجات الضعف؛ حيث كان من أبرزها اجتياح حزب الله لبيروت عسكريًّا عام 2008، ثم إقالة سعد الحريري -بتحالف واسع- من رئاسة الوزراء باستقالة وزراء قوى الثامن من مارس/آذار في يناير/كانون الثاني 2011(8) لاسيما أنه بقي في الخارج لثلاث سنوات قبل أن يعود ويتردد على بيروت منذ أغسطس/آب 2014. أما دار الإفتاء فكانت حينها في موقع مخالف للجمهور السني؛ حيث أصر المفتي محمد رشيد قباني على استقرار علاقته مع حزب الله رغم تدخل الأخير في سوريا وموقفه المعادي للمستقبل، لا بل استقبل المفتي قباني السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم علي، لتفقِدَ الدار قدرتها على تمثيل أهلها لا بل استدعت غضبهم(9). وفي الفترة نفسها كانت الجماعة قد فقدت بعضًا من مرجعيتها الدينية (غير الرسمية) بوفاة أمينها العام “المستشار القاضي فيصل مولوي” عام 2008 والذي كان يحظى باحترام المجتمع الديني الرسمي وغير الرسمي. ما عزَّز هذا كله، الفراغ السياسي والديني وما اصطُلح عليه “بالمظلومية السنية”، من فرص إيجاد كيان ديني يضم علماء سنَّة في مواجهة خطاب حزب الله المتصاعد، وليكون رافدًا لبنانيًّا للثورة السورية ومتابعًا لتداعياتها في الشأن اللبناني.

لعبت الهيئة دورًا متقدمًا على صعيد التوسط لدى المجموعات السورية المسلحة للإفراج عن لبنانيين مختطفين، ودعت لمحاكمات عادلة وعاجلة للإسلاميين الموقوفين في السجون اللبنانية “ظُلمًا” كما تصف غالبهم(10)، وعملت على التوسط بين الجيش اللبناني والمسلحين خلال بعض الاشتباكات التي جرت بين منطقتي التبانة وجبل محسن في مدينة طرابلس، وحاولت التوسط بين الجيش اللبناني والمجموعات السورية في الاشتباكات التي وقعت في بلدة عرسال اللبنانية وأُصيب أثناءها شيخان من الهيئة أحدهما الشيخ سالم الرافعي الذي يشغل منصب رئيسها الدوري راهنًا(11).

تسعى هيئة العلماء لتكون الممثل الشعبي لعلماء لبنان مع اعترافها لدار الإفتاء بالتمثيل الديني الرسمي للمسلمين على الصعيد الوطني، ومن الواضح أنها تريد أن تملك هامشًا أوسع للتحرك سواء على الصعيدين اللبناني أو الإقليمي ولكن دون التعارض مع الفاعلين السنَّة الآخرين، خاصة في مقابل الكيانات الدينية الأخرى التي تنشأ بعيدًا عن مظلة الدولة في بقية الطوائف، مثل تجمُّع العلماء المسلمين الذي يضم علماء شيعة وسنَّة لكنه يحظى بدعم إيران وتمويلها ويسير في ركابها.

إن تركيبة الهيئة مرنة جدًّا وليست صلبة وأثبتت في الفترة الأخيرة قدرتها على الاستمرار بسبب الانسجام بين أبرز الشخصيات الفاعلة فيها، لأنها تجمع في توجهاتها بين سلفية حركية نسبيًّا وبين مرونة سياسية تستقيها من أدبيات الجماعة الإسلامية اللبنانية، ولكن ما زالت تفصلها مسافة عن تيار المستقبل قد تهدد فاعليتها أحيانًا.

الأحزاب القومية

غالب الجمهور السني الذي كان ينتمي للأحزاب القومية الناصرية والبعثية أصبح في تيار المستقبل أو تحت جناحه، في حين يميل معظم الأحزاب القومية السنية التي ما زالت قائمة بذاتها لمحور قوى الثامن من مارس/آذار، وهناك أسباب سياسية وأحيانًا شخصية لخيار هؤلاء، منها محليًّا، على الأقل، أن رفيق الحريري “عدو سوريا” كان يعمل على احتكار تمثيل الطائفة السنِّية وإغلاق ما اصطُلح على تسميته “البيوت السنِّية” الأخرى، مثل: آل كرامي وسليم الحص وسواهما. كما أنه لعب دورًا في تحجيم الأحزاب السنِّية الأخرى لاسيما القومية ليعزز من نفوذه في صفوف طائفته ووطنيًّا. أما على الصعيد الوطني والإقليمي فـ “الحريرية السياسية”، كما توصف أحيانًا من خصومها، مصنَّفة على أنها نصيرة لليبرالية المتوحشة وأنها ضد خيار “المقاومة”، وحليف يأتمر بأمر “السعودية” التي كانت تاريخيًّا “ضد المدِّ القومي الناصري في المنطقة العربية”(12). وتتسم الأحزاب القومية في لبنان حاليًا بصغر حجمها وبولائها لشخصيات جهوية محدودة التأثير، من أبرزهم: مصطفى حمدان رئيس حركة “المرابطون” في بيروت، وأسامة سعد رئيس التنظيم الشعبي الناصري في صيدا، وعبد الرحيم مراد رئيس الاتحاد الاشتراكي العربي في البقاع الغربي، وقد يشار إلى سواهم ولكن بأدوار أقل أهمية في الحياة السياسية اللبنانية.

وحاليًا، تلتقي هذه الأحزاب مع حلفاء سوريا وإيران(13)، مع مجموعات أخرى لها طابع إسلامي محلي أو شخصيات دينية مثل الشيخ ماهر حمود في صيدا، فضلًا عن مجموعات وأحزاب أخرى.

وربما تبرز أهمية هذه القوى في مسألتين أساسيتين: أنها تضفي الشرعية الإسلامية والوطنية على “دور” حزب الله السياسي والعسكري سواء في الشأن الداخلي اللبناني أو الإقليمي، كما أن لها ذراعًا مسلحة تحت اسم “سرايا المقاومة” ترتبط تنظيمًا وتمويلًا بحزب الله كإطار معلن -لغير منسوبي حزب الله (عمليًّا غير الشيعة)- للمقاومة ضد إسرائيل، لكن دور السرايا الفعلي مقتصر على حماية شخصيات ونفوذ قوى سنَّة الثامن من مارس/آذار، في مناطق السنَّة.

رئاسة الوزراء

إن التوزيع الطائفي للرئاسات الثلاث -رئاسة الجمهورية للموارنة، رئاسة المجلس النيابي للشيعة، رئاسة الوزراء للسنَّة- جعل لكل منها دورًا واسعًا سواء على الصعيد الوطني أو على على صعيد الطائفة وتمثيلها، وتعتبر رئاسة الوزراء قمة الهرم في تمثيل السنَّة في لبنان، ويُعيَّن رئيس الوزراء بحسب الدستور وتعديلاته(14) بتسمية النواب له وليس بتعيين من رئيس الجمهورية كما كانت الحال قبل الطائف، ووفق تعديلات هذا الأخير أُعطيت السلطة الإجرائية لمجلس الوزراء مجتمعًا بعد أن كانت منوطة برئيس الجمهورية، كما أن صلاحيات رئيس الجمهورية تنتقل إلى “مجلس الوزراء مجتمعًا” عند الشغور في موقع رئاسة الجمهورية كما حصل في 25 مايو/أيار 2014 بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان(15) ودخلت البلاد في فراغ حاد.

بيد أن سلطة رئاسة الوزراء الفعلية ليست حاسمة في الحياة السياسية اللبنانية؛ حيث كانت خاضعة لدمشق خلال الوجود السوري في لبنان، وبعده أصبحت مقيدة باللعبة اللبنانية وأدواتها التي من بينها السلاح، وإذا ما استثنينا الحديث عن دور السلاح (مثل اجتياح حزب الله لبيروت بالسلاح عام 2008) فقد واجهت “رئاسة الوزراء” في عهد فؤاد السنيورة (2005-2009) تحالفًا أطلق عليه البعض “تحالف الأقليات”(16) بعد ورقة التفاهم ما بين حزب الله والتيار الوطني الحر بقيادة الجنرال عون(17)، وكان الدافع الأبرز المعلن بالنسبة للأخير تقلص صلاحيات رئيس الجمهورية وانتقال بعضها لصالح مجلس الوزراء الذي يرأسه سنِّي. وكانت المعادلة السورية منذ الطائف وكذلك قبله أن يستلم رئاسة الوزراء شخصية سنية لا واقع شعبيًّا لها؛ وهو الأمر الذي حاول رفيق الحريري تغييره، أما حاليًا فقد أثبتت التجربة قدرة تيار المستقبل على الاحتفاظ بهذا المركز لمصلحته أو لمن يرضاه له، وشنَّ حربًا سياسية على رئيس الوزراء السابق “نجيب ميقاتي” إبَّان رئاسته الأخيرة إلى أن استقال فجاءت حكومة الرئيس تمام سلام الأخيرة وتحت عنوان “ربط النزاع”(18)، أي: ربط النزاع بين تيار المستقبل وحزب الله. وفي الحقيقة غالبًا ما كان يجري الحوار في ظل هذه المعادلة (ربط النزاع) بين الطرفين قبل إعلانها، وذلك لتخفيض نسبة التوتر المذهبي في البلاد، أو حلِّ مشكلات أخرى بعضها يتصل في العادة برئاسة الوزراء، وذلك إما لتصريف شؤونها أو للتباحث حول اختيار من يشغلها، كما هو جار الآن حيث قد يقود الحوار في مرحلة ما إلى عودة رئاسة الوزراء لسعد الحريري، باعتباره “الممثل الدائم للأكثرية السنِّية وضامن الاعتدال فيها”. وبهذا الاعتبار قد يكون مما يقلق كل مرشح لرئاسة الوزراء ومنهم تيار المستقبل هو اتساع نادي المرشحين لهذا المنصب وازدياد أعدادهم، لأن كل رئيس سابق يصبح مرشحًا دائمًا لرئاسة الوزراء لاسيما أن توجهاته تصبح معروفة ولأن التجربة معه من قبل الأطراف الأخرى تقرر المرحلة التي يصلح ليتصدرها أو التعامل معها، وهم حاليًا ليسوا كثرًا وإن كان من أبرزهم ميقاتي والحريري ورئيس الوزراء الحالي تمام سلام.

دار الإفتاء

إن القانون اللبناني(19) “يؤكد استقلال المسلمين السنيين، في شؤونهم الدينية وأوقافهم الخيرية” بإدارة من “المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى” المنوط بأعضائه “حقُّ إصدار التشريعات” المنظمة لشؤون وأوقاف الطائفة ويرأسه مفتي الجمهورية اللبنانية الذي هو أيضًا “الرئيس الديني لعلماء الدين المسلمين والمرجع الأعلى للأوقاف الإسلامية والإفتاء على سائر الأراضي اللبنانية، كما أنه المشرف الأعلى على أحوال المسلمين ومصالحهم الدينية والاجتماعية”. أما من الناحية السياسية فإن الدار تتبع سياسيًّا رئيس الوزراء اللبناني “السنِّي”، خاصة منذ الطائف والفترة التي حكم فيها رفيق الحريري(20) وما بعدها، وشهدت افتراقًا في ظل المفتي السابق محمد رشيد قباني مع تيار المستقبل الذي يكاد يكون الممثل السياسي للسنَّة بلا منافس، وشمل خلاف قباني لاحقًا علاقته برئيس الوزراء نجيب ميقاتي؛ ما أدى في لحظة فريدة في تاريخ الطائفة السنية إلى انقسام في بعض مؤسسات دار الإفتاء على نفسها لاسيما المجلس الشرعي الإسلامي، وكذلك الانفصام بين دار الإفتاء ورئاسة الحكومة، ولكن بعد انتخاب تمام سلام لرئاسة الوزراء تم الاتفاق بوساطة سعودية-مصرية-سوريَّة على استقالة المفتي قباني وتم انتخاب عبد اللطيف دريان خلَفًا له، وأُعيد توحيد الدار تحت الرعاية السياسية لتيار المستقبل(21)، وهذا لا يمنع وجود مسؤولين دينيين نافذين في الدار قد يُعتبرون من القريبين نسبيًّا من قوى 8 مارس/آذار وترضى بهم سوريا في هذا الظرف، خاصة من أولئك الذي تجمعهم علاقات جيدة مع مصر، وهم يوفرون غطاء نسبيًّا من الدار لعلماء سنَّة يؤيدون حزب الله وهو يدعمهم(22).

على العموم، إن تجربة الخلاف بين دار الإفتاء وتيار المستقبل أثَّرت على قيادتي الطرفين؛ حيث بات الأخير أكثر حرصًا على تقليم أظافر الدار والنأي بها عن السياسة من خلال التلويح بحزمة إصلاحات “تُقلِّص من صلاحيات المفتي” وهي إحدى النقاط التى كانت مثار خلاف مع المفتي السابق رشيد قباني إذا استبعدنا الاتهامات بالفساد المالي التي سيقت ضده(23). ويحرص المفتي الجديد عبد اللطيف دريان على أن يبتعد عن مواضع الاشتباك السياسي مع الإذعان للسنِّية السياسية محليًّا وفي الإقليم، حتى بات متهمًا من بعض علماء الدار نفسها بالإذعان لتيار المستقبل. وعلى الصعيد الإقليمي ألقت الدار بثقلها على خط محاربة ما يُسمى بـ “التطرف والإرهاب”، وهو تقاطع يحظى برضى من السعودية ومصر وتقبله إيران وسوريا، وترضاه فئات سياسية وبيروقراطية لأنه “يحفظ اعتدال الطائفة” في زمن التطرف، لكنه بالمقابل يثير ريبة علماء وقضاة وخطباء وفئات أخرى، ويرون أن دار الإفتاء مقبلة على “تسييس” أكبر بخضوعها أكثر من أي وقت مضى “للسياسيين”، “وستفقد دورها كأحد الحصون الأخيرة لحفظ سمات الطائفة الدينية، “لتكون نُهبة للتطرف أو الانحلال”.

مستقبل خريطة الفاعلين السنَّة

يصعب على أي طرف سنِّي احتكار التمثيل السني شعبيًّا أو رسميًّا خاصة في هذه المرحلة دون أن يُمنى بفشل على أكثر من صعيد، وذلك بسبب تنوع التحديات التي تشهدها الساحة اللبنانية، ما بين أمني وسياسي واقتصادي وديني وعدم قدرته على الاستجابة لها منفردًا، وهو ما أثبتته التجربة مع تيار المستقبل، الذي استنهض كل الفاعلين السنَّة ليكونوا بجانبه بعد مقتل زعيمه رفيق الحريري وجمعهم على أجندة واحدة للتخلص مما سمَّاه “الوصاية السورية”، ولاحقًا التصدي لما وصفه بـ”هيمنة السلاح” ومواجهة التمدد “الإيراني” في لبنان، لكنه ما لبث، كما يقول منتقدوه، أن حاول التفرد بقرار “السنَّة اللبنانيين” الذين استنهضهم من قبل، لكنه تجاهلهم حيث قرر التنازل، ومن ذلك على سبيل المثال عقده حكومة شراكة مع حزب الله آخرها “حكومة ربط النزاع” رغم أنه عاب ذلك على الرئيس نجيب ميقاتي واتهمه بـ”الخيانة” و”الانقلاب”(24). لا، بل سار بخطة أمنية مشتركة مع حزب الله “أسقط منها حلفاءه السنَّة من التيار الإسلامي بل بعضهم اعتبرها تستهدفهم فيما تستهدف”(25). فضلًا عن ذلك كان زعيم تيار المستقبل -الحريري الابن- قد نزل بضيافة الرئيس بشار الأسد في سوريا رغم اتهامه لسوريا بقتل والده(26).

هذه التنازلات كما يصفها الفاعلون السنَّة -المتضررون من “تفرد المستقبل بقرار المكون السنِّي” دون إشراكهم أو على الأقل إبلاغهم مسبقًا بما يقرره ولو من باب العلم- قد أربكتهم بل أربكت عموم الشارع السنِّي وتسببت بظهور فاعلين جدد كانوا أكثر ميلًا للتشدد، منها حالة الشيخ أحمد الأسير في صيدا (جنوب لبنان) التي ظهرت -كما تبرِّر نفسها- لمواجهة التحدي الأمني الذي “فشل المستقبل” في التعامل معه والمتمثل بسلاح حزب الله في الداخل اللبناني، وظاهرة أمراء المحاور السنَّة في التبانة (شمال لبنان) لمواجهة “سلاح جبل محسن” المؤيد للنظام السوري، وكذلك ظاهرة التفجيرات “الانتحارية” المتنقلة التي تورط فيها لبنانيون سنَّة وضربت مناطق لبنانية، بتأثير من “النصرة” و”تنظيم الدولة” في الجوار السوري، بسبب “غموض خطاب تيار المستقبل وتردده”(27).

وقد يكون في تحميل تيار المستقبل مسؤولية ضعف المكون السنِّي واتهامه بالتردد مبالغة وربما هرب من المسؤولية خاصة من قِبل الفاعلين الآخرين من المكون السنِّي، لأن “المستقبل” بادر بالتصدى للتطورات المحلية المتسارعة منذ الانسحاب السوري من لبنان عام 2005 بما سُمِّي “ثورة الأرز”، وتصدر مواجهة التحديات التي ألمَّت بالإقليم، بدءًا من الصعود الإيراني مرورًا بأحداث “الربيع العربي” وتداعياته خاصة في سوريا، ولكن هذا لا ينفي أن نهج “التفرد بالقرار” والركون “للانقسام” بغضِّ النظر عمن يصدر ومهما كانت أسبابه ومبرراته، سيعطي رسالة للشارع السنِّي مفادها أن الفاعلين السنَّة لا يملكون القدرة ولا الإرادة على حماية حقوق “المكوِّن السنِّي” الوطنية وخياراته فضلًا عن تحقيق مكاسب له لا عن طريق السياسة ولا عن عن طريق العمل المشترك؛ ما قد يُنتج فاعلين جددًا، مجموعات أو أفرادًا، أكثر غضبًا وأقل انضباطًا لا يرون خيارًا إلا الجنوح نحو التشدد والعنف ونبذ “للعبة السياسية الخاسرة” كما يرونها، خشية من أن يخسر “المكون السنِّي” مكانته في الكيان اللبناني.

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات.

السابق
فستق «الميدل إيست» في دكاكين الضاحية!
التالي
مقدمات نشرات الأخبار المسائية ليوم الثلثاء في 17/3/2015