انهيار سياسة الاحتواء التقليدية لإيران؟

واجهت ادارة اوباما خلال السنوات القليلة الماضية مشاكل كبير مع حلفائها  أكثر من خصومها أو منافسيها، ونشرت العديد من الكتابات التي تتطرق الى المشكلة العميقة التي تعاني ادارة الرئيس اوباما منها والتي لا يبدو عليها انها تدركها بشكل جيدا والمتمثلة في “غياب مصداقيتها” أمام حلفائها واصدقائها حول العالم.

لقد بدأ الأمر مع الاوروبيين عندما راقبوا باندهاش كيف اهمل أوباما الاتحاد الاوروبي لصالح التقارب السريع مع الصين ابان الازمة المالية العالمية، تبعه العديد من المشاكل الثنائية وصولا الى فضائح تجسس الادارة الامريكية على حلفائها الارووبيين وعلى رأسهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميريكل.

لم يتوقف الأمر عند الأوروبيين، فالاتراك أيضا لم يستطيعوا ان يفهموا كيف ولماذا تقوم ادارة اوباما بتجاهل مصالحهم ومخاوفهم الاستراتيجية في سوريا والعراق لصالح روسيا وايران، سيما انّ أحدا لا يحصل على اي مكاسب من هذا التجاهل الذي لا يحصد سوى المزيد من الخراب والدمار والاحتلال.

ولا يختلف أصدقاء أمريكا من العرب عن الآخرين، فهم أيضا لم يفهموا توجهات الادارة الامريكية لا قبل الثورات العربية ولا خلالها، فاين خطاب أوباما اليوم من خطابه السابق في القاهرة أو انقرة، واين هي خطوطه الحمر اء في سوريا؟ واين هي وعوده في ايقاف النووي الايراني؟ واين هي جهوده في تحقيق السلام والتوصل الى اتفاق في القضية الفلسطينية؟

العالم كلّه الآن يعاني اضطرابا بسبب سياسة الادارة الامريكية المضطربة او بالاحرى بسبب عدم وجود رؤية أمريكية ازاء التحديات الكبرى في العالم وفي منطقة الشرق الاوسط بالتحديد، وفي قلبها ايران. السياسة الأمريكية التقليدية لمختلف الادارات الامريكية منذ العام 1979 وحتى العام 2009 كانت تعتمد من دون استثناء على سياسة الاحتواء في مواجهة ايران.

لم تكن سياسة الاحتواء المطبقة من قبل ادارات كل من كارتر وريجن وبوش الأب وكلينتون وبوش الابن بنفس المستوى والشدة، واختلفت باختلاف الظروف والبيئة فمنهم من اتبع سياسة احتواء قاسية ومنهم من فضّل سياسة احتواء رخوة ان صح التعبير. لكن هذه السياسة حقّقت بعض النجاحات في عدد من المجالات الى ان بدأت تتآكل مع الغزو الأمريكي للعراق عندما تمّ تقديم الاخير على طبق من ذهب لايران.

مع استلام ادارة اوباما، كان من الوضاح انّ هناك شيئا مختلفا يجري التحضير له، لكن أحدا لم يكن يتوقع انقلابا كاملا في السياسة الامريكية تجاه طهران.  اليوم بات جليا انّ الانقلاب قد حصل بشكل كامل، ويتم البحث الآن في الخطوة الاخيرة لاتمامه رسميا أو ربما الاعلان عن فشله الذريع، هذه ليست مشكلة بحد ذاتها من حيث المبدأ، فليس هناك شيء ثابت في السياسة سوى المصالح.

المشكلة ان ادارة اوباما لم تكن صريحة مع المنطقة والعالم ازاء ما نوت او تنوي القيام به بخصوص ايران، البعض يقول ان الادارة نفسها ليس لديها سياسة ازاء الملف الايراني وان هذا هو سبب تناقضها أو ربما عدم وضوحها، في حين يشير آخرون أنّه اذا كان هناك شيء واضح لدى الادارة الامريكية منذ البداية فهو التوصل الى اتفاق مع ايران.

هذا التناقض في النوايا لدى الادارة الامريكية وحالة عدم الشفافية أكدتها فما بعد المفاوضات السريّة مع ايران ومثلها المراسلات السريّة وما ورد فيها. وبغض النظر عن ذلك، فان الادارة لا تحيط الكونغرس اصلا بحقيقة ما يجري بينها وبين ايران فكيف لنا أن نتوقع ان تحيط حلفاءها واصدقاءها؟! كل هذه المحطات ادت وتؤدي الى فقدان الثقة بالادارة الأمريكية، فكيف من الممكن ان يتم الوثوق من الآن وصاعدا بمثل هذه الادارة ووعودها او ضماناتها؟!

اما المشكلة الثانية، فهي انّ سياسة الاحتواء التقليدية التي طبّقتها كل الادارات الامريكية السابقة تتجه نحو الانهيار الكامل مع ادارة اوباما، ومن الصعب اعادة احياء هذه السياسة الا اذا فشل الطرفان في التوصل الى اتفاق شامل. لقد قررت الادارة الامريكية التضحية بسياسة الاحتواء التقليدية، وايضا التضحية بحلفائها في المنطقة بل والسماح لإيران بالتوسع عاموديا وافقيا في سوريا والعراق ولبنان واليمن بدعم وتشجيع من واشنطن وبشهادة الأمريكيين أنفسهم، ليكون ذلك بمثابة الجزرة التي تقنع ايران بالتوصل الى اتفاق على أمل أن يؤدي في النهاية الى تمتين العلاقة بين الطرفين.

ولاول مرة منذ انشاء الجمهورية الايرانية، يتم السماح لطهران باجتياح بري وجوي للعمق العراقي، كما تقوم باجتياج ممثال في سوريا ليس قرب الحدود اللبنانية فقط وانما الاردنية أيضا. ومكمن المشكلة هنا هو انهيار سياسة الاحتواء التقليدية دون تقديم اي سياسة بديلة، فاوباما لا يمتلك على ما يبدو سوى سياسة “الامل” القائمة على “تمني” ان يؤدي الاتفاق مع ايران الى جعلها دولة مسؤولة، وحظوظ نجاح هذه السياسة بالمعنى العلمي تكاد تساوي صفرا ليس لانّها تعتمد فقط كليا على الطرف الآخر، بل ولانها غير قائمة على معطيات واقعية.

اما المشكلة الثالثة والأكبر، فهو تصور الادارة الامريكية انّه من الممكن لها ان  تجسر الفجوة بين توجهها لعقد تحالف مع ايران وبين عدم ثقة حلفائها بها من خلال وعود شفهية وكلام عن عدم وجود صفقة شاملة مع ايران، وهو كلام يثير القلق أكثر مما يبعث على الطمأنينة خاصة كما سبق وشرحنا في ظل غياب سياسة امريكية واضحة للتعامل مع ايران في قضايا اخرى تتجاوز الموضوع النووي.

معظم التقارير الامريكية للمراكز البحثية او الاعلامية المحسوبة على ادارة اوباما او المقربة منها تدعو الى التركيز على ان تقوم الادارة بطمأنة حلفائها عبر أمرين، الاول هو محاولة التقريب بينهم وبين ايران، والثانية الوعد ببيعهم المزيد من الأسلحة!، وهي في الحقيقة خطوات لا تخدم في النهاية الا الجانب الامريكي، ولا يمكن اعتبارها باي حال من الاحوال ضمانات.

الدول العربية تبدو في حالة استسلام تام للسياسات الايرانية كما هو حال ضحايا تنظيم داعش والميليشيات الشيعية في المنطقة. هذه الحالة من الاسترخاء تحتاج الى التفكير خارج الصندوق والى تحولات جذرية في السياسات التقليدية تتماشى مع التحولات الجذرية التي تقوم بها ادارة اوباما وايران في المنطقة.  الاعتماد الكامل على الولايات المتّحدة كما هو معروف منذ عقود ادى الى حالة من الضعف الشديد في سياسة الاعتماد على النفس ومن نتائجها الكارثية حالة الاستسلام القائمة حاليا،

تغيير هذه السياسة او تعديلها ليس بالامر الهيّن ويحتاج الى وقت طويل، ولكن لتجاوز سلبياتها الآنية على الأقل لا بد من تمتين العلاقات الاقليمية كما سبق وذكرت مرات عديدة بين اللاعبين الاقليميين الكبار  ولاسيما المتضررين من الانقلاب الحاصل في السياسة الامريكية (تركيا والسعودية)، والسعي لاجتذاب بعض الدول الاقليمية والدولية التي قد يكون لديها مصلحة في مثل هذا التقارب لاسيما دول مثل فرنسا ومن ثم توسيع القاعدة، هو امر في غاية الاهمية في هذه المرحلة على الأقل لضمان ان يكون لديهم كلمة مؤثرة وأن تؤخذ مصالحهم بعين الاعتبار في بازار الصفقات الامريكية- الايرانية.

(عربي 21)

 

السابق
مواقف «حزب الله» تغيرت بعد تصريح الحريري
التالي
فرنسا تتجه لمعاقبة عارضات الأزياء النحيفات بالسجن