صورة الرجل الذي قاوم قاتليه

مئات، او ربما الاف من الصور التي شاهدتها، مشاهد الفيديو التي تابعتها، مئات من الرحلات داخل سوريا، عشرات المرات التي عبرت فيها الحدود، وحده مشهد شاب سوري مقاتل من الجيش الحر، يقاوم قاتليه هي ما بقي يتردد في ذاكرتي.
فيديو قصير، كما كل المقاطع التي توزع هنا وهناك، فيه عنف اصبح معتادا، لا اذكر بالضبط متى شاهدته اول مرة، ربما منذ عامين او اقل او اكثر، شاب يقع بين ايدي مجموعة من جيش النظام، وتتكفل بتعذيبه وضربه كالمعتاد، وباسماعه بذيء الكلام، وهو ينتفض ويقاوم، المدهش انه كان يقاوم. يلبط برجليه، يحاول رفع جسده، يضربونه على رأسه بانبوب معدني، يقولون له ان ذاك ثأرا لجنود يبدو انهم قتلوا في مكان قريب، وهو من دون ان ينبس ببنت شفة، يقاوم ويسعى للخلاص.

ضحية تصارع

حين شاهدت الفيديو للمرة الاولى لم اصدق، شيء لافت جدا ان ضحية تقاوم جلاديها، طبعا الكل شاهد مقاطع تعذيب ممنهج وهمجي يمارسها جنود النظام ومؤيديه على المناهضين لهم، كانت تلك حملة تسريبات لمئات من المقاطع التي يشتم فيها الجنود امهات المعارضين، ويكفرون ويطلقون الشتائم على كل المقدسات الاسلامية، مرحلة تمهيدية لاستجلاب ردة فعل همجية ودينية، وهو ما تم لاحقا.
الا انني ازعم انه نادرا ما شاهدت حالة مقاومة، الضحايا دائما مستكينين للامر الحاصل، يحاولون تخفيف العذاب، ربما يتخيلون انهم قد يبقون على قيد الحياة بحال صمتوا، دائما يتقبلون ما يقع لهم باستكانة هائلة.
سألت صديقة عالمة نفس وطبيبة تعيش في فرنسا، كيف يمكن لانسان يعلم انه مشرف على الموت الا يقوم باي رد فعل، او يتعرض للطعن ولا يتحرك، هل المقاطع مزورة؟ هل يصعد الدرج طائعا وهو يعلم بانه سيتعرض لاطلاق النار من الخلف؟ الا يشعر بحماوة الطعنة؟ الا ينتفض؟
شرحت لي يومها الصديقة اليات الدفاع الفيزيولوجية والنفسية، وان ما نشاهده هو حقيقة، وليست مقاطع مفبركة، هي الطبيعة البشرية التي تحمينا حين نتعرض الى مواقف مشابهة.
الا انني دهشت من رد فعل هذا المقاتل في الجيش الحر، كيف قاوم جلاديه – قاتليه، كيف استطاع الاصرار على الصراع رغم كل الالم، الامر لا يشبه الافلام التي نشاهدها، هذه دنيا الحقيقة، ليست لعبة كاميرات وبطولات متخيلة، الشاب يدافع عن نفسه حتى يفقد وعيه، ثم يقتل.
شاهدت الشريط مرة اثر اخرى، وتكرارا على الرغم ما فيه من فظاعة، سألت صديقتي التي لم تجد اجابة واضحة، كانت تقول ان الانسان يذهب الى الاستكانة، ولكن هذا الشاب اصر على الدفاع عن النفس.

شلل الرعب

في اللحظة التي تم ايقافنا فيها من قبل حاجز تابع للدولة الاسلامية في ارياف حلب وبعد ان اخذوا الفريق الصحفي الذي كان برفقتي، خطر ببالي هذا الشاب، كنت اجلس هناك، وقد اعتقد عناصر الحاجز التوانسة انني سوري، وتركوني بانتظار بت امر رفاقي، فكرت بهذا الشاب، الذي قاتل الموت وجلاديه معا.
بعدها بساعة اعادوا فريقنا الصحفي ونقلونا الى الدانا، حيث المحكمة المركزية لداعش في ذلك الحين، واثناء سيرنا على الطريق، اخدوا الفريق في سيارة فان مع مرافق واحد من داعش، ووضعووني في سيارة اخرى انطلقت امام الفان، ومعي سائقي السوري، ومرافق من داعش ايضا، قبل ان نمر على حاجز لواء التوحيد تحسست سكيني الحاد في جيبي، كان كافيا لقتل مرافقنا التونسي، وبحال تخلصنا من هذا الحارس سيكون امامي وامام سائقي السوري فرصة للحياة، ولكنني التفت الى الخلف، الى الفان الذي يسير خلفنا، وكان فيه خمسة من فريقنا، مرافقين سوريين وثلاثة صحافيين اجانب، قلت ربما فكر واحد منهم على الاقل كما افكر، ولكنني ترددت، سيقتلون، ولحظات صرخ حارسنا التونسي بالسائق “لا تتمهل على الحاجز تابع تابع” وقطعنا حاجز لواء التوحيد دون ان يلحظ ربما عناصر الحاجز اننا مقادون من عناصر داعش.
لاحقا تركنا في الدانا مع عناصر حاجز للدولة الاسلامية، وحين ركض نحونا عشرات من مقاتلي الدولة، واقنعتهم السوداء على رؤوسهم، كان الرعب هو فقط ما شعرت به، لم اتذكر اي شيء، ولم افكر باي شيء، لم احاول الهرب، ولم اتحرك من مكاني، وقفت اتفرج، وهم يتقدمون مسرعين نحونا، ربما كانوا ثلاثين عنصرا، او اكثر، اسلحتهم بايديهم، ويركضون مجموعات خلف بعضها، ونحن نراقب، لم اعد انتظر شيء، سوى لحظة الموت للتخلص من الرعب.
تجاوزنا العناصر الراكضين ذاهبين الى هدف اخر. بعد ساعات طويلة اطلق سراحنا، فكنا اخر الصحافيين الناجين من حواجز تنظيم الدولة الاسلامية.

لا اريد الموت هكذا

“شلني الرعب لحظة مواجهة عناصر داعش، ولكنني قبلها فكرت بقتل حارسنا التونسي حين كنت في السيارة، هل فكرت مثلي للحظة؟” سألت احد اعضاء الفريق، وهو الاكثر خبرة بيننا في الاعمال الحربية، فقال “لا” وصمت.
الرجل لم يحادث احد من الفريق حين وصلنا الى تركيا، ولا في اليوم التالي، فقد التقينا هو وانا وتحدثنا جانبيا، وابقينا حوارنا سرا، سألته “الم تر وصولنا الى حاجز لواء التوحيد فرصة للانقضاض على الحارس في الفان؟ لو انقضيت انا على حارسي هل كنت ستتحرك؟”
نظر الي باستغراب كبير “لا” قال بالانكليزية، “لا، لم ارد الموت هكذا، لم اكن لافعل اي شيء لو قمت انت بخطوة حمقاء”.
حين غادرت غرفة زميلي رحت افكر بالشاب نفسه، ذاك الذي ربما لم يكن بطلا في حياته، وربما لم تكن مشاركته في المعارك طويلة، ومع ذلك عاند وهو يصارع قاتليه، سألت صديقتي الطبيبة مجددا، لم افهم جوابها، لم اكن اصدق ان شخصا يمكن ان يقع بين براثن ذئاب بشرية ويظل يقاوم حتى الرمق الاخير.
هذا ليس فيلم سينما، حين اعتقلت ايضا فضلت الاستكانة على الدفاع عن نفسي، كنت اولا اقول انني لا اريد التسبب بمقتل مرافقي السوريين، ثم قلت لنفسي انني لن اقوم باي خطوة تجاه الشيخ الهزيل الذي يقود السيارة، على الرغم من سهولة التغلب عليه، ولكن مصيري لم يتحدد بعد، وبعدها حين وضعت ليلا في زنزانة منفردة كنت لا ازال خاضعا لتأثير الرعب، ولم استجمع الشجاعة في نفسي الا بعد ساعات طويلة.
اين منا ذاك الشاب؟ وقع بين ايدي جلاديه، ولا شك بانهم شرعوا في تعذيبه وتصويره فورا، او بعد هنيهات من القبض عليه، ورغم ذلك قاتل من اجل الحياة.
ذاك الشاب لم يصرخ، لم يستنجد بالله، كان يمثل توحد الثورة، وحدة الانسان السوري في داخل الاراضي السورية، الناس التي تذبح وترفض الموت، ربما الناس تصرخ استنجادا بالله، وبالعالم، الا ان العالم لا يسمع اي صوت يصدر عنها، وهذا الشاب لم نسمعه في الشريط يصرخ، ولا يستنجد، كان فقط يقاوم.
هذا ليس فيلم من افلام البطولات الانسانية، انه فقط فيلم قصير، تم توزيعه لاستثارة رد فعل غرائزية، ولكنه سيكون لوقت طويل شاهدا على الثورة، وعلى مقاتل بقي يصارع حتى فقد وعيه ثم اطلق الرصاص عليه ومات.

السابق
الشرق الأوسط: الحريري: اللبنانيون لن يرضوا بأن يكونوا جزءًا من الإمبراطورية الإيرانية
التالي
أي دلالات للاستعراض الكبير الداعم لمصر؟