«كي لا تضيع النبطية»: صُوَر الحياة الماضية

(كي لا تضيع النبطية) هو عنوان كتاب إلكتروني وضعه الأستاذ لطفي موسى فرّان، حشد فيه ما اختزنته ذاكرته من صور الحياة الماضية في مدينته، فأسهب في وصف حاراتها وحوانيتها وتعداد حرفييها وبعض أعيانها وعلمائها وشعرائها ومدارسها، ولم ينسَ المرور على لطائفها وطرائفها وبعض ظروفها السياسية.
ورغم ما يشوب الكتاب من هنات وعثرات لغوية ونحوية، إلا أن الوصف الدقيق لانسياب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين حارات النبطية، تنسيك تلك العثرة لتغوص معه في المضمون وإن لم تكن من أبناء المدينة.

ولطفي موسى فرّان هو بالأصل مهندس إلكتروني تلقى بدايات تعليمه في النبطية، ثم انتقل إلى بيروت حيث نال منحة لمتابعة دراسته في باريس فأنهى تعليمه فيها، وعاد ليعمل في التلفزيون الرسمي في تلة الخياط، ومن ثم ذهب إلى أبو ظبي وعمل هناك بنظام الإعارة خمس سنوات، بعدها شدّ الرحال إلى الغابون ليصبح لسنوات ضمن فريق عمل الرئيس الغابوني (بونغو عمر). في العام 1990 استقرّ في باريس متقاعدا ومستشفيا ومتفرّغا للبحث والدراسة، فانتسب إلى مركز (إيريس) حيث نشر العديد من الأبحاث حول تاريخ وثقافة جبل عامل باللغة الفرنسية تحت إشراف (باسكال بونيفاس) وحصل هناك على ماجستير في العلوم الإجتماعية وأخرى في التاريخ من جامعة السوربون.

تبدأ رحلتنا مع الكاتب منذ طفولته التي لم يكن يشوبها انقطاع في التيار الكهربائي، وبالتحديد من المدرسة السميحية(نسبة لمديرها الأستاذ سميح دخيل فياض)، فيستحضر ما كان يردده الطلاب قبيل إنزال العقاب بأحد زملائهم، فينشدون بلغة مسبوكة:
يا جهاد يا بن المفيد    بشّر القوم العنيد
بسيوف قاطعات         ورماح من حديد

وحيث أنّك في النبطية، فلا بدّ للكتاب أن يعرّج بك على صرحها الحسيني المشهور الذي بدأ ببنائه الشيخ عبد الحسين صادق الجد عام 1909م، بمساحة لم تكن تتجاوز الستين مترا مربعا من الطين واللبن والتبن. وظل الصرح هكذا حتى العام 1948 حيث ضرب لبنان زلزال زعزع قواعده فتقرّر هدمه وإعادة بنائه من جديد في زمن الشيخ محمد تقي صادق. فجيء بالبلاط والرخام من معمل ميخائيل المرني في الشياح، أما الساعة المشهورة فقد تبرّع بها البيك أحمد الأسعد، وكانت سويسرية الصنع وقام بتركيبها على برجها السيد ميشال مدوّر وكانت تعمل بطريقة التشريج اليدوي عبر البلانكو والجنزير.

وفي بداية تكوين وعيه السياسي ونضوجه، كانت النبطية تعجّ بالثورة عام 1958، فعايش أجواء السخط ضد حلف بغداد، وعاين نشاط المعارضة للرئيس شمعون ودوّن لنا أسماء أركان الثورة في المدينة: حبيب صادق – عبد الحسين حامد – عادل صباح – محمد بدير – حبيب جابر – وجيه بشارة – محمد سرحان – إسماعيل وجعفر إبراهيم – أم ملحم فريحة الحاج علي – أم أكرم سلمى علي أحمد – أم رائد ليلى نصار – عزيزة بك الفضل وفاطمة بنت الشيخ أحمد رضا.
كما كان شاهدا كيف جلب شباب الثورة في النبطية أفراد الحزب القومي السوري من بيوتهم وأجبروهم على القسم أمام الشيخ بترك مبادئهم الحزبية والإنحراط في الثورة.

وعن حال القرى المحيطة بالنبطية وأجوائها السياسية، يفيدنا الباحث بأن كفرمان وعربصاليم وكفركلا وحولا وعديسة كانت شيوعية، أما حبوش وعبا وجبشيت وكفرتبنيت وزوطر وأرنون ويحمر والنبطية الفوقا فكانت ناصرية، وفيما خص أنصار والدوير والعيشية والجرمق والقليعة ومرجعيون وجرجوع فهي ذات ميول قومية سورية، ويبقى زبدين وجباع والشرقية التي كانت توجهاتها بعثية.

وعن تفاعل النبطية مع إطلاق أول صاروخ فضائي روسي، يصوّر لنا لطفي فران كيف نظّم حشد من الظرفاء مسيرة ناحوا فيها على الكلبة (لايكا) التي تعتبر أول رائدة فضاء فهتفوا لها:
يا لايكا يا مسكينة   أنت بالسما رهينة
عفراقك يا حزينة    سكّرنا هالمدينة

بعدها يأخذنا المهندس الكاتب إلى خفايا النسيج الاجتماعي النبطاني، فيروي كيف وفد الميرزا الإيراني من بلاد العجم مع ابنه بهجت وابنته مريم، واستقرّوا في النبطية وأصبحوا جزءاً من نسيجها، ويشير هنا بشكل غير حاسم بأن الميرزا هو من حمل معه عادة التطبير من بلاده ونشرها في النبطية عام 1920. ولا ينسى الإشارة إلى أحوال الوافدين الفلسطينيين وما كابدوه في أول أيامهم.

ومن خلال طبيعة عمله الإعلامي، يُرجع ابن النبطية وجود السينما فيها إلى عهود بعيدة، ويستحضر سميرة توفيق وفهد بلان ورندة مزهر الذين حضروا لإقامة حفلة في ملعب مدرسة الراهبات في المدينة . كما ويستحضر وديع الصافي وصباح اللذين جاءا لمنزل محمد بك الفضل لتصوير مشاهد من فيلم كانت تنتجه شركة(صباح إخوان للسينما) المملوكة لآل صباح النبطانيين.

وقبل أن يُنهي جولاته في المدينة، يستذكر جوّ الإنتخابات النيابية وتطاير الحمم حين تعلو الأصوات بالحوربة:
والخيل خاضت بالدما      لعيون إبن الأسعدي
وما هي إلا أسابيع ويفوز البيك ب 14 مقعدا فينشد القوم له الموشحات:
بأربـعـتـعشر خـرطوشة    سـكّرنا صـور
صيدا صارت مطووشة      ومطووشة صور

وينتهي بنا المطاف في حيّ السراي في النبطية، حين خرج شبابه ورجاله هاتفين لفوز أبي علي أحمد عبد الهادي الصبّاغ برئاسة البلدية:
حيّ السرايا صارخة      الله أكبر بو علي

بالفعل هي محاولة كتابية جميلة، تحتاج لتشذيب وإكمال لتبقى الذاكرة الإجتماعية حيّة ومصانة ومحفوظة.

 

السابق
شاهد أغلى وأشهى لوح شوكولا في العالم
التالي
تصريحات هيل: طمأنة أمريكيّة للحلفاء واستباق نتائج المفاوضات مع إيران