غزة الثالثة… حرب لا طائل منها

غزة

ليس من اليسير تأويل الحروب غير المحسومة عموماً، وحرب غزة الثالثة من هذه الحروب. فالأهداف التي سعى المتحاربون الى بلوغها- نزع سلاح القطاع من جهة إسرائيل، وإنهاء الحصار من جهة «حماس» – تبدّدت تدريجاً في أثناء النزاع. وانتهت الحرب من غير منتصر، وكانت أطول نزاع خاضه الخصمان وأشدّ النزاعات دماراً وخسائر عليهما، واقتصرت على إعلان وقف نار من غير شرط غير… متابعة المفاوضات. وسبق لإسرائيل و»حماس» أن وقّعا، في 2012، اتفاقاً في أعقاب عملية «عمود الدفاع» التي دامت أسبوعاً، وأوقعت عدداً من الضحايا والخسائر أقل بكثير، يشبه الاتفاق الأخير. فهل كان النزاع الدامي، في صيف 2014، واقعة من وقائع الحرب غير المتكافئة بين الدولة العبرية و»حماس»، وحلقة من سلسلة حلقاتها المتجددة؟

في بداية الأعمال الحربية، مال المراقبون والمتقاتلون الى اعتبارها حملة محدودة يتوسّل بها الجيش الإسرائيلي، بين وقت وآخر، الى ضرب الجهاز الهجومي الذي لا تكفّ الحركة الإسلامية الفلسطينية عن محاولة بنائه، واستعادة القدرة على الردع، على قول إسرائيلي متكرر. وسرعان ما بدا، منذ الطلقات الأولى، أن النزاع الجديد يختلف عن النزاعات التي سبقته. فملابسات انفجاره، وسعته، ونتائجه السياسية، حادت عن المثال الذي أرسته النزاعات السابقة. وأظهر على نحو غير مسبوق، ثقل الشبكات الاجتماعية ودور وساطتها في صناعة الأهواء القومية، وتوجيه السياسات، وإدارة النزاع نفسه.

وبعض فرادة عملية «السور الواقي»، على ما سُميت استباقاً، ناجم عن حصولها من غير أن يريدها طرفا النزاع. فلا إسرائيل أرادتها ولا «حماس»، وأخفق الاثنان في تجنّبها إخفاقهما في إنهائها. فعشية الأعمال العسكرية، شكّ الطرفان في جدوى انفجار العنف وجموحه الى أقاصيه. وكان نتانياهو أرسى دالته السياسية على وعد بصرامة أمنية لا تردّد فيها، وأنكر على سلفه، إيهود أولمرت، حؤوله دون إنجاز «تساحال»، في أثناء عملية «الرصاص المسبوك» (2008)، «القضاء على الإرهابيين». فلما تولى رئاسة الحكومة، أظهر الحذر والتحفّظ والميل الى تجنّب المواجهة الحربية ما أمكن. وهو يعلم أن هجوماً برياً كبيراً على غزة مغامرة كثيرة الأوجه، عسكرية وسياسية وإنسانية، ولا ترهص باستئصال الإرهاب. وهو يعلم كذلك، أن البديل من «حماس» قد يكون شراً منها بما لا يقاس. ولا يحتاج النظر الى أبعد من إسرائيل، في سورية والعراق، ليرى بأم العين ما تعلنه «الخلافة الإسلامية» من غايات أخروية. والحروب الأهلية علّمته أن القضاء على حركة أيديولوجية – فكيف الحال إذا كانت أصولية – بوسائل عسكرية مثل الطائرات من غير طيارين أو الصواريخ، مستحيل. والى هذا، فإن حرباً في غزة قد تجرّ الى انتفاضة جديدة في الضفة الغربية حيث تتكاثر النذر منذ أشهر: عملية السلام في سبات، الحال الاقتصادية على شفير الانهيار، المستوطنات لا تكفّ عن الانتشار، الإهانات والمظالم لا تنفكّ تتراكم ولا تلقى جزاءها المفترض، فلا يرتدع المستوطنون المتطرفون الذين جعلوا الضفة الغربية أقرب الى غرب رعاة البقر. وعلى رغم هذا كله، أقام نتانياهو على حذره واطمئنانه. وانصرف الى قضية النووي الإيراني، ونصبها في الصدارة من مشاغله، وأحل في منزلة ثانوية تهديد الجهاد الإسلامي و»حماس». وخلص الى هدنة هشّة في غزة خير من حرب لا يعلم أحد نتائجها. فرفع شعار «الهدوء في مقابل الهدوء».

ولا شك في أن «حماس» بادلت رئيس الوزراء الإسرائيلي الحذر. فالنزاع المسلّح مع إسرائيل، قبل أن تستكمل الحركة بناء شبكة الأنفاق الهجومية التي تعوّل عليها حين يحين الوقت، سابق لأوانه. فهي كانت تعدّ العدة لعمليات كبيرة في خريف 2014 الذي يصادف الأعياد اليهودية ربما. فتهاجم البلدات الإسرائيلية القريبة من الحدود، وتوقع خسائر مدنية كثيرة، وتأسر عشرات الرهائن (وهذا كابوس ثقيل على الإسرائيليين)، وتفاوض على رفع حصار غزة من موقع قوة، وترسي صدارتها على الحركة الفلسطينية كلّها. فتخوض حرب استقلالها. ولكن الظروف لم تكن نضجت بعد. وتشكّ أجهزة الاستخبارات بإسرائيل في إقدام غزة على حسم قرار الحرب. وحملت الظروف إسرائيل و»حماس» على غير ما أرادا وخطّطا.

فخطفُ 3 فتيان إسرائيليين ثم قتلهم، وقتل شاب فلسطيني من بعد هذا، جرّ الى ردود منفعلة وهوجاء، تخللتها تقديرات خاطئة ومتبادلة. فكلا الطرفين حسب أن عليه الرد على استفزازات الطرف الآخر مع التعويل على إمساكه وضبطه نفسه. فخسر كلاهما وأخطأ الحساب ولم يسع «حماس»، وهي المتهمة بالتخلّي عن الكفاح المسلّح و»المساومة» مع محمود عباس المعتدل، الإحجام عن الرد والإقرار بالضعف. فعمدت الى استئناف إطلاق الصواريخ. وفي إسرائيل، حضّ اليمين المتشدّد، وممثلوه في صفوف الحكومة، رئيس الوزراء على استئصال التهديد الإرهابي، وذكروه بخطبه ووعوده يوم كان يقود المعارضة. وفي غياب وسيط في مقدوره نزع فتيل الانفجار- وفي 2012، اضطلع الرئيس المصري محمد مرسي بالدور قبل عزله – جمحت الأزمة. وفي 8 تموز (يوليو)، اندلعت الحرب.

وعبثاً حاول نتانياهو الحؤول دونها. فتخلّى عن شروطه الأولى- نزع سلاح غزة وإلغاء عسكرتها-، وقبل وقف إطلاق نار غير مشروط، وذلك بعد أن اكتشف الجيش الإسرائيلي الأنفاق الهجومية التي لم يدمّرها. فرفض قادة «حماس» الاقتراح، وأصروا على اشتراط رفع الحصار لقاء الهدنة، وعلى مقايضة آلام السكان الفلسطينيين، وإثبات قوتهم، برفع الحصار، وزادهم تعاظم الدمار إصراراً وعناداً قبل أن يتراجعوا في نهاية المطاف، آملين في استدراك بعض ما فاتهم تحصيله في مفاوضات القاهرة، بعد سقوط نحو ألفي قتيل.

وتتميز هذه الحرب عن سابقاتها بدوامها وقتاً استثنائياً (50 يوماً)، وبعنفها الهائل (أكثر من 4500 صاروخ أصابت الأراضي الإسرائيلية، وقصف نحو 5 آلاف في غزة)، وبعدد ضحاياها (73 اسرائيلياً قتلوا، معظمهم من العسكريين، وقتل أكثر من 2100 فلسطيني، معظمهم من المدنيين)، وضخامة الدمار الذي أصاب السكان (آلاف الإسرائيليين أجلوا عن منازلهم، وآخرون قطعت الإنذارات أوقاتهم، ودمر 17 ألف منزل في غزة وخلّف تدميرها 100 ألف شخص في العراء). وجردة الحساب الكئيبة والقاسية هذه، تبرز التباس المحصلة العسكرية واضطراب النتائج السياسية التي تكشفت عنها الحرب. فمن الناحية العسكرية الصرف، في مستطاع الجيش الإسرائيلي القول إنه أنجز المهمة التي أوكلت إليه: فحارب جنود الاحتياط من غير تردّد، وقامت سلاسل الأمر بوظائفها من غير فجوات، وأظهرت «القبة الحديد» نجاعتها واعترضت معظم الصواريخ وقذائف الهاون المصوّبة الى المدن، وغذى نظام الاتصالات المندمج الوحدات الميدانية المقاتلة بالمعلومات مباشرة وفي وقت «حقيقي». وأتاح رفض «حماس» وقف النار، تدمير الـ 30 نفقاً التي كانت تهدّد القرى الإسرائيلية بجوار قطاع غزة، وبرّر العملية البرية التي شهدت مقتل عشرات الجنود الإسرائيليين والمقاتلين الفلسطينيين.

وغيّرت الأنفاق وجه الحرب. فـ «سلاح الضعفاء» هذا في الحرب غير المتكافئة وغير المتناظرة بُني على عمق 25 متراً تحت سطح الأرض، وأبطل عمقه المراقبة الإلكترونية. واحتاجت الأنفاق الى استثمارات مالية كبيرة (نحو 90 مليون دولار)، وإلى آلاف الأطنان من الاسمنت المهرّب من سيناء، وجهود بشرية ضخمة. و15 نفقاً منها بلغت الأراضي الإسرائيلية. وعلى رغم تداول المراتب العسكرية والسياسية الأمر منذ سنة تقريباً، لم تولِ هذه المراتب المسألة أهمية استراتيجية، ولم تعدّها بين الأهداف المتصدرة والبارزة التي تسعى الى تدميرها على وجه السرعة. فلم يؤمر الجيش، في بداية عملياته، بتقويض هذه المتاهة المتشابكة، وحين أُمر اضطر الى الارتجال، وصرف 3 أسابيع كاملة في العملية.

وعلى خلاف عمليتي «الرصاص المصبوب» في 2008، و»عمود الدفاع» في 2012، لم يشن الطيران الحربي الإسرائيلي هجمات ضخمة شلّت قادة «حماس»، ولم يقتل قائد الحركة العسكري ولم يدمر قواعد الصواريخ الكثيرة، ولم ينشر قوات برية بعثرت وحدات «حماس» القتالية وحملت بعضها على الهرب والتخفّي. فقوات الحركة، هذه المرة، تحولت جيشاً فعلياً، متماسكاً ومنضبطاً، ومدرباً على حرب العصابات في المدن. ونفذت القيادات العسكرية من شباك المراقبة الإلكترونية، فشتت لفيف أركانها في قلب الجماعات السكانية المدنية، ووراء جدران المتاريس تحت الأرض. وفي غضون سنتين، بعد 2012، جدّدت «حماس»، بدعم رعاتها الإيرانيين وبواسطة أنفاق جاهزة هربتها من سيناء الى غزة، خزينها من الصواريخ والهواوين التي ظلت تقصف بها الأراضي الإسرائيلية الى حين دخول وقف النار الموعد المحدد، أي أن المنظمة الإسلامية بلغت تدريجاً مستوى كيان دولي، غير مكتمل ولا ناضج ولكنه ينزع بكليته الى تحقيق غايات أصولية. والمصالحة مع السلطة الفلسطينية، في نيسان (أبريل) المنصرم، كانت فعلاً يائساً يرمي الى كسر عزلة «حماس» في انتظار أوقات مؤاتية، من غير تعديل الاستراتيجية العامة: الاستيلاء بأي ثمن على عناصر السلطة الفلسطينية ومفاصلها. وهذا ما أعربت عنه تصريحات خالد مشعل، زعيم الحركة السياسي، في أثناء النزاع. فاشتراطه فك الحصار وحرية الانتقال وتحسين البنى التحتية، الى تعهد إنشاء مرفأ بحري ومطار بضمانات دولية، كلها ترسي في غزة، وفي عهدة «حماس»، سيادة أمر واقع، في انتظار شمولها الضفة الغربية. وهذا ما غفلت عنه السياسة الإسرائيلية الماضية على اعتبار «حماس» منظمة إرهابية.

 

السابق
سلام: نتابع موضوع المرّحلين من الامارات
التالي
السفير الأميركي لـ«جنوبية»: عملت مع 3 نساء وتأثّرت بهن