أين الأمم المتحدة من عصرها الذهبي؟

أتكلم في هذه المقالة بشكل رئيسي عن العمل التنموي للأمم المتحدة، وليس عن عملها السياسي في مجال الأمن والسلام الدوليين. من الضروري، خصوصاً في هذا السياق، الفصل بين الأمانة العامة، أي الجسم الفني والتنفيذي للمنظمة، والجسم السياسي الذي يشمل الدول الأعضاء ويتخذ في النهاية القرارات الصادرة عن المنظمة. العلاقة بين الجسمين هي ذات أهمية، وهي قد تغيرت مع الوقت، إلى حد كبير مع شخصية الأمين العام، وعلى حساب مصداقية الأمانة العامة ومصالح الدول النامية. هذه هي قصتها:

أول أمين عام للأمم المتحدة، النروجي تريغفي لي، لم يعتبر أن دور الأمين العام هو دور محايد، بل دور مشارك في القرارات. فبالنسبة للحرب الكورية مثلاً، اعتبر لي أن كوريا الشمالية هي المعتدي، ما أغضب الاتحاد السوفياتي وسبب له مشكلات كبيرة عند تجديد ولايته الأولى سنة 1951 وبعدها. في هذه الأثناء، بدأ السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي حملته الشهيرة ضد الشيوعية في أميركا، فوصلت به الأمور إلى اتهام موظفين في الأمم المتحدة بالتجسس لحساب الاتحاد السوفياتي. وصلت ضغوط مكارثي إلى حد جعل كبير مستشاري تريغفي لي وصديقه الحميم آيب فيللر، ينتحر، ما سبّب له ألماً كبيراً شكل سبباً إضافياً لاستقالته من منصبه سنة 1952، ولم يستطع أن يترك وراءه أي إنجاز يُذكر.
اقترح الاتحاد السوفياتي يومها أن تُسلّم الامانة العامة إلى «ترويكا» مؤلفة من ممثل عن كل من الدول الغربية، والدول الشيوعية، ودول العالم الثالث، ولكن القرار في النهاية كان في إيجاد أمين عام لا يسبب المشاكل التي سبّبها سلفه. وقع الاختيار بعد مدة طويلة من المشاورات على داغ همرشولد، الشاب الذي لم يكن قد تجاوز الـ45 سنة من العمر على افتراض أنه، بحسب سير بريان أوركهارت، أحد مؤسسي الأمانة العامة، «لطيف، موظف حكومي سويدي كفؤ لا يهز المركب وليس مفرطاً باستقلاليته ولا يسبب المشاكل. ولكن الحقيقة تقال إنه كان مفاجأة كبيرة خلال الثماني سنوات التي تلت تعيينه إذ إنه كان كل شيء سوى ما انتظروه».
شهدت الامانة العامة عصرها الذهبي في عهد همرشولد، من 1953 إلى 1961، وإلى حد ما في عهد خليفته يو ثانت الذي دام حتى سنة 1971. أنشأ همرشولد الأمانة العامة من حوالي 4000 موظف على قاعدتين أساسيتين: أولاً عدم تدخل الدول في تعيينات الموظفين، وذلك من أجل حماية الأمانة العامة من التوظيفات السياسية، وثانياً اختيار كبار الموظفين الفنيين، كل في مجال اختصاصه، بعد استشارة القيادات الفكرية في ذلك الاختصاص لإيجاد الشخص الذي يتمتع بالمعرفة الفنية والقدرة الإدارية. هذا ما ورثه يو ثانت وأكمل العمل على أساسه.
كان للأمانة العامة التي أسسها همرشولد احترام كبير على المستوى الدولي. وكان لكلام الامين العام صدى واسع، كثيراً ما كان يتجاوز صدى كلام رؤساء الدول الكبرى في المحافل الدولية. واستطاعت الأمانة العامة، من خلال نوعية دراساتها للمواضيع المطروحة، والاحترام الدولي لها ولأمينها العام، وليس من خلال المواجهة، كما في عهد تريغفي لي، أن تُدخل المفاهيم العلمية في القرارات المتخذة من قبل الجسم السياسي، بدلاً من أن تكون هذه القرارات فقط نتيجة تسويات لصراع مصالح بين الدول الكبرى.
مثال واحد أورده هنا لتوضيح هذه الفكرة. فخلال ما سمّيته العصر الذهبي للامانة العامة (1953-1971) نالت نحو أربعين دولة إفريقية ودول نامية أخرى في أميركا اللاتينية وآسيا استقلالها ودخلت في منظومة الامم المتحدة. الموضوع الأكبر في الامم المتحدة أصبح في حينه تنمية العالم الثالث. كان الفكر الاقتصادي الإنمائي الطاغي يومها، بخاصة في ما يتعلق بالعلاقة بين الشمال والجنوب، هو الفكر الكلاسيكي، بالأخص فكر دايفيد ريكاردو وأطروحته حول ما يُسمّى «الميزة المقارنة» (comparative advantage) التي تقول بأن كل دولة يجب أن تركّز مواردها على الانشطة الاقتصادية التي لديها فيها أفضلية في الإنتاج على بقية الدول، وأن تُبادل الفائض مع الدول الأخرى. ترجمة ذلك على أرض الواقع كان أن تركز الدول النامية على المواد الأولية والزراعة التي تشكل إنتاجها الرئيسي، وأن تبادل فائضها من تلك المنتوجات بالمنتجات الصناعية التي تنتجها الدول المصنّعة. المؤسسة الدولية الرئيسية التي كانت تُعنى بقضايا التبادل التجاري، كانت الـ «غات» أي «الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارية» التي تأسست سنة 1947، وكان هدفها الأساسي تثبيت النظام الاقتصادي النيوليبرالي المتبع بعد الحرب العالمية الثانية وفتح الأسواق وإنهاء سياسة الحماية الجمركية.
في هذا الوقت، ظهرت مدرسة اقتصادية جديدة معارضة للفكر النيوليبرالي في موضوع التبادل التجاري مبنية على أفكار شخصين هما راوول بريبش وهانس سينغر، كلاهما من كبار موظفي الأمانة العامة للأمم المتحدة. «أطروحة سينغر ـ بريبش»، كما سمّيت في حينه، أظهرت أن التبادل التجاري بين المنتجات الأولية والزراعية للدول النامية (أي دول الأطراف بحسب الأطروحة) والمنتجات الصناعية للدول المتقدمة (أي دول الوسط) هو لمصلحة الأخيرة، وأن تطبيق النظام النيوليبرالي في هذا المجال سيزيد الفارق في الدخل والنمو بين دول الوسط ودول الأطراف. لذلك، فعلى البلاد النامية أن تطوّر صناعاتها وأن تحميها لمدة تخوّلها الوقوف في وجه صناعات دول الوسط وأن تنافسها في الأسواق الدولية، ما يتعارض مباشرة مع سياسة الـ «غات»، أي سياسة إنهاء الحماية الجمركية، على الأقل بالنسبة للدول النامية.
هذه الفكرة الصادرة عن أمانة عامة ذات مصداقية واسعة أعطت زخماً كبيراً للدول النامية الجديدة العضوية في الأمم المتحدة، ما أجبر المنظمة على الدعوة لمؤتمر للدول الأعضاء في جنيف سنة 1964 حول التجارة والتنمية، انبثقت عنها مؤسسة دولية تحت اسم «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» (UNCTAD)، كما تم في نهايته تأسيس «مجموعة الـ 77» المؤلفة من 77 دولة نامية (أصبح عددها اليوم 134)، هدفها الرئيسي تعزيز القوة التفاوضية للدول النامية بما يتعلق بجميع قضايا الاقتصاد الدولي داخل الأمم المتحدة. أما المنظمة نفسها، أي UNCTAD، فسريعاً ما أصبحت منظمة متخصصة من منظمات الأمم المتحدة ذات تأثير كبير داخل الأمم المتحدة وخارجها، من أهدافها الأساسية الحماية الجمركية للصناعات الناشئة في الدول النامية.
بدأت الأمور تتبدّل بسرعة بالنسبة لدور الأمانة العامة للأمم المتحدة بعد انتهاء عهد يو ثانت وبدء عهد كورت فالدهايم سنة 1972 الذي دام تسع سنوات. تريغفي لي اضطُر إلى الاستقالة عندما أغضب الدول العظمى بسبب استقلاليته ومساندته دولاً صغرى على حساب مصالح المعسكر الشيوعي ثم المصالح الأميركية، وكل التحقيقات المستقلة تقول إن همرشولد قُتل لأنه لم يستجب للضغوط الدولية من الشرق والغرب، فتعدّى باستقلاليته على مصالح الجهتين (إقرأ كتاب «مَن قتل همرشولد؟» للكاتبة سوزان ويليامز الذي دفع الأمم المتحدة إلى إعادة فتح التحقيق في مقتل الأمين العام). حاول يو ثانت جاهداً أن يكمل طريق همرشولد في الحفاظ على نوعية الأمانة العامة وابتعد عن مواجهة الدول العظمى في الأمور السياسية. أما فالدهايم، فلم يستطع مواجهة أيّ من الضغوط، فتحوّلت الأمانة العامة إلى «سكريتاريا» بالمعنى الضيق للكلمة، فخسرت الأمانة العامة الكثير من نوعية موظفيها وريادتها ومصداقيتها، وبالتالي قدرتها على المشاركة الفعلية في صنع القرارات، ولم يعد باستطاعتها أن تنشط لحماية مصالح الدول الصغرى. أما تأثير الأمين العام على الأحداث الدولية فلم يعد يشبه، ولو من بعيد، تأثير همرشولد أو حتى يو ثانت. وقد يكون ذا دلالة في هذا السياق ما تتداوله بعض المواقع على الإنترنت من أن الأمين العام الحالي، بان كي مون، قد أعرب عن قلقه 140 مرة (البعض يقول 180 مرة) من أحداث جلل تهدّد الأمن والسلام الدوليين، منها «قلق عميق» (مثلاً حول مشكلات الاحتباس الحراري) أو «قلق» عادي (مثلاً حول بناء المستوطنات في فلسطين).
في مقالة نشرت في «نيويورك تايمز» حديثاً، بقلم الأمين العام السابق كوفي أنّان ونائبته غرو بروندتلاند حول إصلاح الأمم المتحدة، نجد فكرة تتعلق بتحسين نوعية الأمين العام من خلال آلية جديدة يقترحانها لاختياره، عوضاً عن المساومات السياسية الحالية بين الدول الكبرى. ولكن الأمم المتحدة التي تأسست على أساس هيمنة الدول الكبرى عليها، إذ أعطيت هذه الدول حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، حيث تؤخذ القرارات الملزمة، وعضوية دائمة فيه، كما أعطيت الحصة الكبرى من الأصوات في المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين، لن تتنازل عن قدرتها على اختيار الأمين العام والهيمنة على التوظيف في الأمانة العامة، ولن تسمح في أي حال من الأحوال إعادة تجربتها مع أمثال داغ همرشولد، مهما كلفها الأمر.

(السفير)

السابق
المجمع الثقافي الجعفري: «عن داعش ومنابتها الفكرية والعقائدية»
التالي
صدور القرار الظني في جريمة بتدعي