لتفكيك منطقة اليورو وإنقاذ أوروبا

«إذا أخفق اليورو، أخفقت أوروبا»، قالت أنغيلا مركل. ولكن ما يحصل اليوم هو خلاف هذا القول. فاليورو يدمر أوروبا. وندوب الاتحاد النقدي عميقة، وقد تطيح الاتحاد الاوروبي. ومع بلوغ حزب «سيريزا» اليساري المتحالف مع اليمين المتطرف السلطة في اليونان، يبدو أن المشروع الرهيب القاضي بزرع عملة موحدة في مجتمعات اقتصاداتها مختلفة يلقى الخاتمة الذي يستحقها، على رغم محاولات انقاذه.

ومن مظاهر هذه المحاولات تربع بيروقراطيين متحدرين من بيروقراطيات مالية خاصة وعامة محل حكومات منتخبة. ولكن الشعوب لفظت هذه المؤسسات، من طريق المؤسسات الديموقراطية التي رفضت الاعضاء البروكسيلية المزروعة فيها. والنازع هذا تكر سبحته: ففي اسبانيا، يتوقع ان يطيح حزب «بوديموس» الحزب الحاكم اليميني المتوسط، «بارتيدو بوبولار». ولا أحد يعلم ما ستنتهي اليه المفاوضات بين اليونان وأوروبا. و«سيريزا» متنازع ازاء خروج بلاده من اليورو. والاحتمالات لا تزال مشرعة. وعلى رغم أن ايطاليا واسبانيا تعلنان تأييد سياسة الاصلاح المشتركة وخطط الانقاذ، لا ريب في أنهما مقبلتان على المطالبة بنظير التنازلات التي ستنتزعها اليونان في المفاوضات. وتترتب على هذه التنازلات أثمان باهظة في شمال اوروبا.

وقد تفلح بروكسيل في حمل اليونان على تمضية الصيف في منطقة اليورو وإرجاء انسحابها منها. وقد ينجم عن ذلك شقاق في «سيريزا» وانقسام يشوّه سمعة هذا الحزب في أوساط الناخبين. واستقرار الاقتصاد اليوناني لن يبدد الهوة الضخمة بين شمال أوروبا وجنوبها التي نجمت عن «الاصلاحات». والهوة ستبقى على حالها، ولو رفعت ايطاليا واسبانيا قدراتهما التنافسية رفعاً يتماشى مع معايير البنك المركزي الاوروبي والاتحاد الاوروبي. وإذ ذاك قد يُطالب بتعويضات وتوزيع العوائد والدخل توزيعاً يُزعم أنه عادل بين دول نسب الضرائب والمساعدات الاجتماعية فيها غير متجانسة أو تحفيز النمو من طريق ديون أو مساعدات بنيوية على المستوى الاقليمي وعودة العلاقات الى ما كانت عليه قبل الازمة: نزاع على توزيع العوائد والدخل تنتقل عدواه الى العلاقات بين الدول. وهذه المطالب ستوجه الى ألمانيا ودول أصغر مثل هولندا والنروج وفنلندا، ودور فرنسا سيقتصر على الوساطة. فتندلع أزمة متناسلة الفصول تنتهي الى انفجار اوروبا. ولن يسع ألمانيا وشمال اوروبا تجنب مفاوضات متوقعة. والنزاع البنيوي لن يطوى طالما الاتحاد النقدي لم يطوَ. وإذا لم يتداعَ على وقع النزاع جراء تمسك الحكومات بتجربتهم العبثية أو حسبان قطاع التصدير الالماني أن من مصلحته التمسك باليورو في انتظار رسوخ «الفكرة الاوروبية»، تهافت المشروع الاوروبي آت لا محالة. لذا، تمس حاجة ألمانيا ومصالحها الاقتصادية والسياسية الى وقف العمل بالاتحاد النقدي على صورته الحالية.

وتعاظمت كراهية ألمانيا في دول الحوض المتوسط الاوروبية، ومن ضمنها فرنسا، تعاظماً لا نظير له منذ الحرب العالمية الثانية. وبرز الأثرُ البائن لضخ البنك المركزي الاموال في كانون الثاني (يناير) على شاكلة فرح عمّ جنوب أوروبا بهزيمة ألمانيا في مجلس المصرف المركزي على يد البطل الايطالي ماريو دراغي. وتدهور مكانة المانيا الاوروبية مردها الى إرث هلموت كول، المستشار الالماني السابق، «الشغوف بأوروبا». فحين كان طيف الفشل يتهدد اتفاق أوروبي، درج كول على التراجع والمبادرة الى تحميل بلاده ثمن المساومة. وسار خلفاؤه على خطاه، ورجحوا كفة مصالح قطاع التصدير الالماني. وترتب على الترجيح تمويل ألمانيا وحدها تماسك الاتحاد الاقتصادي الاوروبي.

ونجم عن ترسيخ سيرورة الاندماج الاوروبي تسييس المشروع هذا وبروز رأي عام أنهى الاجماع على سياسة الاندماج الاوروبية. ولم تندرج الحياة الاوروبية العامة في سياق الحياة السياسية الداخلية، بل جلت على صورة سياسة خارجية تهيمن عليها النزاعات بين الدول وترمي الى اتحاد ضيق ومتماسك ومتشابك لم يعد يلقى الإجماع ويطعن في نجاعته. وبلغت مساعدات الاندماج في الاتحاد النقدي مبلغاً يتجاوز قدرات ألمانيا. ولم يعد سلك هذا المنحى في متناول حكومة مركل اليوم إثر بروز حزب معاد لأوروبا في 2013. وفوز «سيريزا» قوّض دور القنوات التكنوقراطية وأبرز دور الرأي العام في الخلاف على مشاريع النمو وتعديل الديون وتشارك مخاطر الدين وحق الدول في الانضمام. والاتحاد النقدي أطاح سياسة ألمانيا الاوروبية. والحذر واجب، وقد تترتب على اخفاق السياسة الالمانية نتائج كارثية جغرافية – سياسية. فروسيا قد تمنح اليونان القروض التي لن يمنحها إياها الاتحاد الاوروبي، أو تهب لانقاذ الدولة اليونانية إذا أخرجت من الاتحاد النقدي الاوروبي واعلنت إفلاسها. وقد تسعى موسكو الى المرابطة في اليونان فتتخذها ممراً الى أوروبا الغربية، على نحو ما تسعى أوروبا الى بسط نفوذها في اوكرانيا نزولاً على تشجيع الولايات المتحدة. وستجد كل من روسيا وأوروبا الغربية نفسها وكأنها تحاول ملء بئر لا قاع لها في منطقة نفوذ الآخر. وقد يتفاجأ اليونانيون ان بروكسيل وبرلين وشركاءهما قادرون على تمويل اوكرانيا الاوليغارشية عوض اليونان التي توجه دفتها حكومة يسارية. وقد ترغب موسكو في مد نفوذها الى بحر ايجة، مسرح مناورات الاسطول الاميركي السادس. فتنبعث من رمادها النزاعات الجيو- استراتيجية التي كانت سائدة بعد الحرب الثانية وأدت في 1946 الى تدخل جنود بريطانيين في الحرب الاهلية اليونانية.

لذا، تمس الحاجة الى تفكيك الاتحاد النقدي للحؤول دون تحول أوروبا الى مستنقع اتهامات متبادلة بين الأمم المشرعة الحدود. فسياسة الاندماج الاوروبية، ومحركها مالي نقدي، خرجت من كل عقال. ويجب أن يستند تفكيك الاتحاد النقدي الى العقد الاجتماعي، والسماح لدول جنوب اوروبا بالانسحاب انسحاباً ناعماً ربما الى منطقة يورو جنوبية لا تقتضي اصلاحات تدمر المجتمعات.

(لوموند)

السابق
ماذا يبقى من التشيُّع؟
التالي
متى يُفرج القرار السياسي عن الثروة البترولية؟ الغاز في البحر اللبناني80 ألف مليار قدم مكعب