أحوالنا المتصدعة.. وضاح شرارة دليلاً

تواضعاً منه، وهو تواضع أهل المعرفة، عنون وضاح شرارة كتابه الأخير «العراق مثالاً وحنا بطاطو دليلاً»(). وهو عنوان ينسب مادة الكتاب وجهد مؤلفه وبحثه وتنقيبه .. إلى أثر سابق ومستمر، هو كتاب «العراق/ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني إلى قيام الجمهورية» للباحث الفلسطيني (الأميركي) حنا بطاطو (الطبعة الإنكليزية 1978، والطبعة العربية 1990).

وإذا كانت «قراءة» وضاح شرارة كتاب بطاطو هي بحد ذاتها تأليف وتأويل واستقراء وإضافات لا تقل «أصالة» وجدة عمّا دوّنه بطاطو، جاز القول إن العنوان الفعلي والأصح لكتابه هو «بناء الدولة الوطنية (العربية) في قبضة جهاز الإستيلاء العصبي الريعي والبيروقراطي»، عدا عنوانَي الفصلين الآخرين: «من أهل الدولة إلى دولة الأهل» و»معضلات الدولة «الوطنية»… الأهلية». فما ذهب إليه شرارة وكتبه تبصراً وتحليلاً وربط وقائع كثيرة وإحاطة بأحداث متفرقة ومتناثرة وجمعها على معنى واضح وتتبع سيرورات وتحولات العقود الأربعة التالية على عمل بطاطو، إلى يومنا هذا، هو عمل لا يمكن نسبته إلى «العراق/ الطبقات الاجتماعية…» إلا من باب التوطئة أو الدليل الأولي أو الحجة والمرجع. عدا ذلك، أنجز وضاح شرارة كتاباً يتصل مباشرة بتراثه الشخصي ومؤلفاته السابقة، مضيفاً وموسعاً ومثبتاً أعماله المرجعية في التاريخ وعلم الاجتماع والسياسة والثقافة: «الموت لعدوكم» (1991)، «الواحد نفسه- مقالات في السياسيات الإسلامية العربية« (1993)، «الأمة القلقة« (1996)، «دولة «حزب الله« (لبنان مجتمعاً إسلامياً)«(1998)، «خروج الأهل على الدولة (فصل من تأريخ الحروب الملبننة)» (1999)، «طوق العمامة – الدولة الإيرانية الخمينية في معترك المذاهب والطوائف« (2013)، وغيرها الكثير، آخرها «ترجمة النساء» (2015).

والحال، أن كتاب شرارة «العراق مثالاً..» هو مرة أخرى معاينة معمقة لفشل بناء الدولة الوطنية العربية، ونكوصها باستمرار إلى عصبيات استيلاء وغلبة واحتراب أهلي متشابك ومتعاقب من غير خاتمة. إذ يبدأ كتابه بسرد بعض من رواية نزار خزرجي، رئيس أركان الجيش العراقي إبان غزو الكويت، عن تهميش الجيش عمداً لصالح القوات الخاصة بصدام حسين، ومرويات أخرى تظهر استيلاء صدام وعشيرته أو عصابته على «كل شيء».. ويقول شرارة في خلاصة الكوارث المتعاقبة من الأمس إلى اليوم: «وشَبَهُ هذه الوقائع، التي توالى على سردها أعيان «الدولة» العربية الصدامية، بنظائر وأشباه فشت وشاع العلم بها منذ أواخر 2010 وما بعدها: قيام تونسيين كثر على دولة زين العابدين بن علي ورهط زوجته، وقيام ثورة ملايين المصريين على حسني مبارك ووارثه المفترض وجمعية رجال الأعمال «العميقة» ورجال الدولة التي لا تقل عمقاً، وخروج ليبيين أفواجاً بعد أفواج على «العقيد» معمر القذافي وأولاده وعشيرته وحلفائه، وتقوض جماعات سورية على نظام وصفه المتظاهرون والناشطون والمقاتلون بـ»الأسدي» ونسبوه إلى الرئيس وأبيه من قبله وإلى عصبيتهما. وتشترك هذه «الدول»، وهي أنظمة تسلط واستيلاء وتصريف أمري، في حل الدولة الوطنية والإقليمية، وهيئاتها (السياسية والدستورية) وإدارتها (البيروقراطية والعسكرية والاقتصادية والخدمية)، وإذابتها جميعاً في إرادة «سلطان» واحد ومشيئته. وذلك على مقادير مختلفة ومتفاوتة».

وينتشلنا كتاب شرارة من حيرتنا، ونحن نتابع ما نظنه غرائب القسوة والوحشية وتفشي الإرهاب وتذرر المجتمعات إلى جماعات مستشرسة في الحروب والقتل، فيبين لنا أفاعيل وآثاراً متراكمة ومتراكبة على امتداد قرن تقريباً، مستعيناً بأرشيف قراءاته هو الواسعة والمتشعبة في علم الاجتماع والسياسة والفلسفة والتاريخ، مجتمعة في نظرته «النقدية»، ومكتوبة بلغة أرفع من السائد أدبياً، تقع كل مفردة فيها وكل عبارة على مقصده الدقيق ومبتغاه في نواة المعنى والدلالة.

دأب شرارة في كتب كثيرة سابقة، وفي جديده هذا، على تتبع وإظهار الدلائل والقرائن والنتائج والبواعث التي تتلطى وراء الأحداث والوقائع، وبالأخص أسباب انهيار مشروع الدولة الحديثة في البلاد العربية ومآلاتها، كاشفاً عن كيفية قيام أنظمة التسلط أو رسو الإستيلاء العصبي الريعي والبيروقراطي، من طريق جهاز حزبي بُني على مثال أمني استخباري وعسكري. وهو كمن يقشر غلافاً سميكاً وثقيلاً، يسرد كيف تقوم تلك الأنظمة بتصديع الأبنية التمثيلية النيابية والتنفيذية والقضائية، وتقويض الأجسام أو الأسلاك الإدارية والاقتصادية والعسكرية والأمنية تقويضاً عميقاً: «فيتولى الجهاز الحزبي الأمني، وعلى رأسه قائده، التصريف والتدبير والبت محل الدولة المفترضة، ويصادرها على أدوارها ووظائفها، وعلى مكانتها المادية والمعنوية. ويجمد الجهاز الحزبي الأمني دوائر العلاقات والروابط الأهلية، العشائرية والمحلية والقومية (أو الاقوامية) والمذهبية، والاجتماعية، موقتاً ويعلق بعض آثارها بالقوة…».

يسعفنا عمل شرارة في «قراءة» حالنا، ويغنينا عن شتات الموارد كي «نفهم» ونتدارك.

(المستقبل)

السابق
الفلسطينيون في سوريا
التالي
فضل شاكر لم يسلم نفسه