يوميات معتقل 7: تنظيف البزار والأوساخ مقابل سيجارتين فقط

سجن
يسرد محمد فرحات في هذا الجزء من يوميات معتقل، عن الشاويش الفلسطيني الذي أوكل مهمّة سحب المياه الآسنة والأوساخ من الحفرة التي كان مقصد المعتقلين لقضاء حاجتهم، مقابل سجارتين فقط!

بعد عدّة أيام من وصولنا إلى المعسكر، طلب الجنود من مختار المعسكر إيجاد أسير مناسب لتعيينه كشاويش ستكون مهمّته سحب خرطوم الصهريج من فوق الأسلاك الشائكة ووضعه في داخل الحفرة، ومن ثم مساعدة عمّال الصهريج في التقاط الخرطوم من جديد، بعد الإنتهاء من سحب المياه الآسنة والأوساخ.

فًرِح محمد طيبة الشاب الفلسطيني من صيدا بتلك المهمّة الجديدة لحافزيها: لقب «شاويش» و سيجارتان إضافيتان سيحصل عليهما يومياً.

عرفنا بعد فترة بأن «طيبة» ليست بكنيته، إنّما إسم والدته، وقد تكتّم من أسرّ لنا بذلك عن سبب تسميته هكذا.

كان محمد وكأنّه ولد للقيام بذلك العمل، حتّى وإن توفّرت المياه أحياناً، لم يكن يعنيه تنظيف يديه، أو على الأقل غسل كفّيه. كان يحمل رائحته الكريهة ليتنقّل بها بين جموع الأسرى مع ضحكاته المجلجلة الدائماً.

فاز محمد طيبة بمحبّة عمّال الصهريج ذو البشرة السوداء، ليحصل منهم وبشكل بعيد عن عيون الحرّاس، على علبة سجائر كاملة خلال كلّ عمليّة سحب…

اختفى إسم محمد طيبة رويداً رويداً ليحلّ محلّه لقب «الشاويش»، فبالإضافة إلى مختار المعسكر وشاويش كل خيمة وشاويش المطبخ، أصبح في معسكرنا شاويش آخر، ولتمييزه عن الآخرين أطلقنا عليه لقب «شاويش الخراء».

نشأت بين محمد وتلك الحفرة علاقة من نوع آخر، كان دائم النظر إلى هناك، يراقب مستوى الأوساخ فيها والجرذان على جوانبها والديدان التي تخرج منها، وعندما كنّا نشيح النظر عن أسير يقضي حاجة أمامنا، كان هو يحدّق أكثر، وكأنّه يراقب كمّية الأوساخ التّي تركها هذا أو غيره، كأن قدره أصبح هناك… وكلّ ذلك بسبب مردود هذا العمل من السجائر ورضى الجنود عنه، الذي قد ينقذه من عقاب ما في يوم من الأيام!

السجن

عندما كان يعاقبنا الجنود بترك الأوساخ في الحفرة لأسابيع وأسابيع، كان يبدو شديد التأثر، كانت الأوساخ تتجاوز قطعة الخشب التي كنّا نجلس القرفصاء فوقها لتأدية حاجتنا، وللوصول إلى هناك كنّا ندوس بأقدامنا على تلك الأوساخ الممزوجة بسوائل عفنة، لنعود بعدها إلى محاولة تنظيف أقدامنا بمسحها بالتراب الرطب.

في يوم شتوي بارد أشارت لي أمي، بأن هناك شخصاً يريدني في الخارج، كان ذلك بعد الإفراج عنّا بحوالي الشهر، حيث كانت عمليّات «جمّول» في أوجّها. حينها كانت أعين العملاء تنتشر في كلّ الأماكن، كل تحركاتنا كانت تحت المراقبة الدقيقة، الخطأ الصغير أو حتّى مجرد «مزاج عكر» لعميل من القرية يستطيع إعادة أي منّا إلى المعتقل من جديد.

خرجتُ من الغرفة لأنظر خارجاً، وإذ به يتكئ على حائط الكنيسة المجاور لباب منزلنا بانتظاري، كان هو محمد طيبة، حضر المسكين الطيّب من صيدا للسؤال عنّا وللسلام علينا!

قراري كان حازماً وسريعاً، وكممثل محترف إدعيت عدم معرفتي به، تفاجأ كثيراً بموقفي:

«أنا فلان بشحمي ولحمي… أنسيتني؟».

«أنت مخطىء… لست أنا من تعرف… ربّما أخطأت. الشخص المقصود هو غيري ربما»، أجبته قبل أن أعود إلى الداخل وأقفل الباب الخارجي للمنزل!

عندما كانت تدور معارك شرق صيدا جاء من يخبرني بقصة مقتل محمد طيبة:

ثمة قذيفة لم تنفجر، وبداعي المزاح وبخطوة صبيانية أدار محمد طيبة سلاحه ليطلق رصاصة باتجاهها. ارتمى كل من كان برفقته أرضاً قبل أن تنفجر لتصيبه إحدى شظاياها في رأسه.

ربّما كان عليّ أن أستقبله حينها!

السابق
جيسيكا عازار تعود الثلاثاء الى الهواء
التالي
جلسة حوارية لجمعية قل لا للعنف في يوم المرأة في صفاري