عن عراق ما بعد المواجهات الراهنة والطاحنة

العراق وسوريا

لحظة ظهور «داعش» وتغوله، وامتداده المريب، هي التي فرضت التفكير في مصير بلداننا المنكوبة ما بعد رحيل هذا التنظيم واندحاره. فالسؤال الذي يطرح نفسه اليوم، يتعلق على وجه الخصوص، في شكل الحرب على «داعش»، وكيف وبأي أدوات ستخوضها الشعوب التي وصلها الوباء.
يمكن أن ننظّر كثيراً لضرورة أن تكون الحرب أشبه باحتفال وطني، يعيد إنتاج روح المواطن العربي التي استلبت وتحطمت، وهامت في هوامش الكتب ودهاليز روايات السلف، وبلاغة الناقلين.
يمكن الحديث أيضاً عن رجال دين يواجهون بشجاعة، بعد مغادرة لعبة المخاتلة الفكرية، تلك الالتباسات التي حملها لنا إرث من التزاوج بين الدولة والعقيدة، وبين روح الدين ونصوصه.
كما بالإمكان استحضار الحياة، والتذكير بها أمام مهرجانات الموت اليومية التي يتقنها «داعش» ويبتكر طرقاً مبهرة لعرضها وترويجها.
لكن «داعش»، وهو يولد من نسل التنظيمات الجهادية، ويتشبع بإرث من الصمت والتغاضي، والاستخدام السياسي للدين، والتلاعب بمصير الشعوب على يد حفنه من الحكام المتربصين بالمغانم، كان قد وضع أسلوب نهايته، وحدد طريقاً ذا مسلك واحد للقضاء عليه.
إنها الحرب القاسية والمدمرة إذاً، فـ «داعش» ليس مجرد تنظيم سري ينتظر زج أفراده في السجون ومحاكمتهم، بل ظاهرة تمد أذرعها في كل اتجاه، تعبر الخرائط والجنسيات والمذاهب والأديان، وتتوعد البشرية بدمار شامل.
اللحظة التي ندرك فيها أن «داعش» لن يُهزم إلا على يد آلة عسكرية حاسمة، يشارك فيها المجتمع الدولي برمته، وتنزل خلالها دول المنطقة من التل إلى الميدان، هي اللحظة نفسها التي يجب أن تستوقف الجميع. فهنا في هذه الساحات التي اختارها «داعش» للحرب، وفي رواية أدق اختارتها الإرادات العليا ومصالح اللاعبين الكبار، ثمة بشر وحضارات وتعقيدات اجتماعية وثقافية وتاريخية، تنبئ بأخطار أكبر.
في العراق، حيث تبدو الساحة مثالية لحرب عالمية طاحنة مع «داعش»، يبدو السؤال أكثر إلحاحاً عن طريقة خوض الحرب.
في شكلها التجريدي، الحرب المثالية هي تلك التي تضع فيها الدول العربية وتركيا وإيران وأميركا وروسيا وأوروبا، أيديها بأيدي بعض متضامنة، فثمة عدو واضح، وثمة شعب عراقي واضح أيضاً في رفضه لـ «داعش» وعدم انتمائه تاريخياً لمنظومته الفكرية، وأيضاً هناك حدود وموارد بشرية وإمكانات نفطية، وثقافة عميقة.
فهل يمكن العراق أن يخرج معافًى؟
لكن الحرب لا تخاض بنية أن يخرج العراق معافًى! فمن سوء حظنا أن هذه حرب شكلية وإن كانت ستكلفنا غالياً، وأن الحرب الحقيقية تخاض منذ سنوات لتحديد النفوذ، وفرض المصالح، والبحث عن خريطة نهائية للشرق الأوسط الجديد.
في تكريت أخيراً، كان واضحاً أن طهران وضعت نموذجاً للحرب التي ترغب بخوضها في العراق، وأن واشنطن أيضاً وضعت نموذجها للحرب المنتظرة في الموصل، مع استمرار الغموض حول شكل الحرب التي سيتم خوضها في الأنبار، وقد تفضي النتائج ذات يوم إلى نقاط «تشارلي» جديدة.
لا يملك العراقيون ترف الاختيار، فمن حقهم، وهم يتعرضون لإبادة جماعية مستمرة منذ سنوات على يد «داعش» وعلى يد بعضهم أيضاً، أن يرحبوا بأي قوة تساعدهم في هذه الحرب، وأن يأملوا بتجــنب دفع أثمان مضاعفة لتلك المساعدة.
من غرائب السياسات الدولية الملتبسة، أن واشنطن لا تبحث مع إيران مستقبل الحرب في العراق، مع أنها تعترف بوجودها على الأرض، وأن هذا الوجود لن يصبح رمزياً بعد اليوم.
نحتاج كعراقيين أن تكون هناك صراحة إقليمية ودولية، في بحث إدوار الحرب على «داعش» في نسختها العراقية، وأن تشمل هذه الصراحة إيران، كأحد الأطراف المشاركة فعلياً في الحرب.
ندرك أن ثمة اعتبارات وصراعات وتحديات تبرر حالة التمنّع المتبادلة بين إيران والتحالف الدولي ضد «داعش»، ومن ضمنه المنظومة العربية وتركيا، لكننا ندرك أيضاً أن التكلفة ستكون باهظة جداً لهذا التمنع المتبادل، وأن الشعب العراقي سيكون ضحيته الأكبر غداً، كما هو ضحيته الأكبر اليوم.
محزن جداً أن يتعلق مصير شعب تاريخي كشعب العراق بالشروط التي وضعتها دول أخرى لخوض الحرب على أرضه، بل المحزن أكثر أن هذا الشعب الذي أوصلته الإرادات الخارجية إلى أن تسيطر عصابة كـ «داعش» على نصف أرضه، لا يمتلك شروطاً.
لكنها الحقيقة التي لا تقل قسوة عن الحرب، فالعراق الذي أُفرغ طوال عشر سنوات من إمكانات إنتاج توافق وطني يستحقه، لن يكون بمقدوره إلا القبول بخوض الحرب تحت رايات متعددة، تمثل طوائفه ومكوناته، والدول التي قررت أن تساعد تلك المكونات.
ينظر الجالسون على التلال البعيدة بعين مسترخية إلى المشهد الذي تتنازع فيه الخنادق والبنادق، ولا يترددون في توبيخ العراقيين لأنهم يقاتلون تحت رايات طوائفهم، لأن الكردي في لحظة الموت يلتحف بعلم كردستان، ولأن الشيعي في مواجهة الموت يرفع رايات صفراً وحمراً ويعتمر عصابة خضراء، ولأن قاسم سليماني موجود، ولأن جون آلن موجود.
مهلاً… لم يختر العراقي حربه، لم يسمح له أحد بأن يختار حربه، فالولائم لاقتسام خريطته ما زالت تقام منذ سنوات، وقد استدعي «داعش» كنادل فقط.
لكنه ما زال يمتلك قلب المحارب، وأدوات الحرب وذكرياتها، وما زال ينتظر أن يقرر المتحالفون والمتصارعون الدوليون والإقليميون أن على العراقيين خوض حربهم موحدين ومتضامنين، ومتجردين من أهواء الجيران والأصدقاء والأشقاء وطموحاتهم. حينذاك يمكن أن نتحدث عن عراق لما بعد «داعش».
(الحياة)

السابق
مصر: القوات المشتركة والحل السياسي
التالي
أضعف الإيمان (إسقاط الدولة السورية)