تأمّلات حنَّة أرندتْ «في العنف»… تاريخياً

يتعيَّنُ علينا، لكي نفهم العنف في حقيقته، أن نتفحّص جذوره وطبيعته". هذا ما تُشدِّدُ عليه الفيلسوفة الأميركية الراحلة حنّة أرندت (1906 – 1975) في بحثها القيِّم الذي يحمل عنوان: "في العنف"، والصادر حديثاً بطبعته العربيّة (الثانية)، بترجمة إبراهيم العريس (عن دار الساقي في بيروت في طبعة ثانية 2015).

في هذا البحث تُعالج الفيلسوفة الأميركية الراحلة حنّة أرندت مسألة العنف، كقضيّة عامّة، قائمة في ذاتها، بوصفها قضية كونيّة شاملة (تاريخيّة)، ملازمة للسلوك البشريّ، قاطبةً، وقد تناولت الكاتبة هذه القضيّة بأوجهها المتعدّدة والمختلفة، في نطاق معالجة تحليليّة نقديّة، فلسفيّة وسياسيّة واجتماعية.

ويكشف لنا هذا البحث، مفهوماً جوهرياً مفادهُ أنَّ “الغاية غالباً ما تكون ضحيّة وسيلتها/ وسائلها التبريريّة”. وهذا ما أثبتته التجارب العُنفية التي اتّسم بها القرن العشرون، هذا القرن الذي – وعلى ما تُشير الباحثة – صار، حقًّاً وكما كان لينين قد توقّع، قرنَ الحروب والثورات، وبالتالي قرن ذلك العنف الذي يُعتبر، عادةً، قاسماً مشتركاً بينها. وتؤكّد الباحثة وفي أكثر من موضع هنا أن العنف دائماً ما يتميز بطابعه الأدواتي (أي أنّ لكلّ عنفٍ أدواته الخاصّة، بطبيعة الحال). لذا تلفتُ الباحثة مشيرة إلى أنّ أدوات العنف قد تطوّرت تقنيّاً، إلى درجة لم يعد من الممكن معها القول بأنّ ثمة غاية سياسية تتناسبُ مع قدرتها التدميرية، أو تُبرِّرُ استخدامها حالياً في الصّراعات المسلّحة. فالحال وعلى حدّ قول الباحثة – أنَّ جوهر فعل العنف نفسه إنما تُسيِّره مقولة “الغايةُ والوسيلة” التي كانت ميزتها الرئيسيّة، إنْ طُبِّقت على الشؤون الإنسانيّة، أن الغاية محاطةٌ بخطر أن تتجاوزها الوسيلةُ التي تُبرِّرها، والتي لا يمكن الوصول إليها من دونها، وبما أنّه – وعلى ما ترى أرندت – من المستحيل التنبّؤ، بشكل يحمل مصداقيّته، بالغاية المتوخّاة، من أيّ عملٍ بشريّ، ككيان مستقلّ عن وسائل تحقيقه، من الواضح أن الوسائل المستخدمة للوصول إلى غاياتٍ سياسيّة ترتدي، في أغلب الأحيان، أهميّةً بالنّسبة إلى عالم المستقبل، تفوق الأهميّة التي ترتديها الغاياتُ المنشودة. وتُكمل أرندت قولها: أضف إلى هذا أنّ النتائج التي يُسفر عنها عملُ البشر، تتبدَّى، دائماً، منفلتةً، من رقابة من يقومون بالعمل، فإنّ العنف يحمل في ذاته عنصراً إضافياً تعسُّفياً. والاقتراح الرئيس لأرندت في بحثها هذا، هو طرح مشكلة العنف في الساحة السياسية، على خلفية كل التجارب التي عرفناها في القرن العشرين، والتي – وبحسب الباحثة – جعلتنا على الدّوام، على تجابُهٍ مع ما هو غير متوقَّع كليّاً. فمن هنا جاءت مركزيّة هذا البحث متمحورة حول “السُّلطة والعنف”.

وفي هذا الشّقّ من المعالجة، تُحدِّد الباحثة قواعد التمييز بين هاتين المسألتين، من خلال توضيحها ما يجمع ويُفرِّق بينهما، مع تأكيدها المطلق على أن السّلطة والعنف ليسا شيئاً واحداً. وتقول إنَّ السلطة لا تحتاج إلى تبرير، انطلاقاً من كونها لا تقبل أيّ فصلٍ عن وجود الجماعات السياسيّة نفسه، فما تحتاجُ إليه السلطة، إنما هو المشروعية، أما العنف، فقد يكون مبرَّراً، لكنه أبداً لن يحوز على مشروعيّته، إلاّ في حالة واحدة “هي حالة الدفاع المشروع عن النفس حين يكون الخطر حتميّاً”.. وتلفت الكاتبة إلى ان السلطة والعنف على الرغم من كونهما ظاهرتين متمايزتين، عادةً ما يظهران معاً، وحيث يتمّ التّوليف بينهما يتمّ إبرازُ السلطة باعتبارها العامل الأساسيّ والمسيطر. كما وتُشدد الباحثة على أن العنف لا يمكنه أبداً أن يتحدّر عن نقيضه، الذي هو السلطة. هذا وتختتم أرندت بحثها هذا بالتّنبيه التالي: ينبغي علينا أن نعرف أنّ كلّ انحطاطٍ يُصيب السلطة، إنما هو دعوةٌ مفتوحةٌ للعنف – ولو لمجرّد أنّ أولئك الذين يقبضون على السلطة، سواءٌ أكانوا حاكمين أو محكومين، إذْ يشعرون بأن هذه السلطة تفلت من بين أيديهم، يُلاقون على الدّوام أكبر قدر من الصعوبة دون مقاومة إغراء استبدال السّلطة بالعنف.

ونوضح أخيراً أن كتاب “في العنف” إنما هو مرجعٌ غير مسبوقٍ في موضوعه أوّلاً، وفي طريقة مقاربته له ثانياً، ومضمونه هو عبارةٌ عن تأمّلاتٍ شخصيّة للمؤلفة في هذا المجال، هي التي وضعت هذا البحث لأنها وجدت أنَّ العنف نادراً ما كان موضع تحليل أو دراسة خاصّة. و”في العنف” صدرت طبعته العربية الأولى في العام 1992، وهو، علاوةً على تميّزه بالشموليّة، يتميّز أيضاً، بالكثافة والعمق في التّناول (إذْ هو لا يتعدّى المائة واثنتيْ عشرة صفحة من القطع الوسط، بمتنه وثَبْتِ مراجعه الإحاليّة المائة والأربعة عشر، وملاحقه الثلاثة عشر).

السابق
غورلي سمّى من ذبح العسكريين اللبنانيين..
التالي
الحريري التقى السيسي وشيخ الازهر في القاهرة