كان ياماكان.. دامسكو

دمشق

كان ينسج الدامسكو، مات، سقطت فوقه قذيفة، هكذا أخبروني في آخر مكالمة من دمشق.
كنت أظنه عجوزا بما يكفي ليموت بسبب الشيخوخة، لكن القذيفة هذه المرة أرادت أن تقصف جنّات الدامسكو المزروعة بالفرسان والصيادين والطرائد والأشجار والزهر والثمار.. أتذكر الأسماء التي سردها لي بائع الدامسكو قبل اربع سنوات، هناك في دمشق للنقشات أسماء: المسهّم، والمعمّد، والمعرّج، والمهلهل، والمطيّر، والمخيّل، الأطلسي والتابوري، والهرمزي، والمنيّر، والمفوّف.
أتحسس قماش الدامسكو بين يدي، قماشة بيضاء منزلة بخيوط الذهب منقوشة بالخيول والسيوف ورجل أسود تقابله فتاة بيضاء. وحده النسّاج الدمشقي بصبره ودقته يمكنه أن يُظهر ملامح التعالي بشخصية «عبلة».
الدامسكو يحكي، ويروي ويتكلم، سيحكي لنا الحكاية ذاتها: كيف أن فارسا اسمه عنترة وضع كل حياته على الطرق التي عبرتها عبلة، يضرب بسيفه، يجندل القتلى، يفتك بأعداء قبيلته، يطير على ظهر حصانه الأدهم لعله يصل إلى عينيها العمياوين عنه، لكنه لا يصل.. يظل مسمرا على الدامسكو. وكل مجد عنترة، أنه بلغ تلك اللحظة التي يجرؤ فيها المرء وبسبب الحب وحده، أن يجن ويحارب ويقتُل ويُقتَل. تنبعث بين يديه كل الأسلحة التي عرفها العرب، ضرب بها حيا وميتا.. فيما كل الصحراء المنسوجة حوله تقول له: لن تحبك عبلة. وستأبى عليك أن تعيد سيفك إلى غمده حتى تغدو في تراب الأبد.. على القماشة ذاتها نُسجت طيور تنوء أجنحتها تحت ثقل ألوهة مبهمة لها ذيول طويلة ملتهبة الحواف. رغم أنها طيور منسوجة من خيوط وحسب، لكنها توحي للرائي أنها: حرة، مستقلة، موجودة على الدامسكو بشروطها..
كيف لأحد أن يقاوم سحر «شال» من الدامسكو يدفع سندبادا في وجهك، الحكاية كاملة نُسجت: العنقاء، والسفن التي على وشك أن تغرق، حوت متنكر بهيئة جزيرة، وديان في قعرها حيّات وألماس، جنيات بلون أزرق وواحات مفقودة عثر عليها نسّاج الدامسكو بخياله ونقشها في عالم أقمشة. مشغولة من حرير قَطَعَ حوالي ثمانية آلاف كيلومتر من الصحاري والجبال والوديان ليصل دمشق.
البروكار، الدامسكو، الألاجا، الديما، البرنجكة.. أسماء لمنسوجات «شامية» في طريقها للاندثار.
تقفز ظباء الدامسكو من الأقمشة.. ظباء من العناد والجنون بحيث لا تريد أن تسمع احدا، فقط تريد أن ترحل إلى حيث تحلم..

(السفير)

السابق
قاسم سليماني جنرال حرب أم رجل استعراضات؟
التالي
مهزلة البحث عن «داعش» في متحف الموصل