الموارنة في تركيا خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين

قد يبدو تناول موضوعات مماثلة غريبًا بعض الشيء. في الواقع، كان الموارنة ولا يزالون من الأقلّيّات الدينيّة في تركيا. نعالج هنا بعض أوجه وجودهم في تركيا أثناء العقود الأخيرة من حكم الأمبراطوريّة العثمانيّة، كما في جمهوريّة تركيا الحاليّة. في هذا الصدد، سنتناول مجموعتَين أساسيّتَين منهم، الأولى عن الشخصيّات المارونيّة التي كوّنت جزءًا من النخبة السياسيّة في إسطنبول أثناء العقود الأخيرة من حكم الأمبراطوريّة العثمانيّة، والثانية عن الموارنة المتمركزين في وسط جنوب تركيا ولا سيّما في مناطق مرسين، وطرسوس، وأضنة، وإسكندرون، منذ العقود الأخيرة من حكم الأمبراطوريّة حتّى اليوم.

شخصيّات مارونيّة كانت جزءًا من النخبة السياسيّة والإداريّة في إسطنبول أثناء العقود الأخيرة من حكم الأمبراطوريّة العثمانيّة.
إنّ تحديث الأمبراطوريّة العثمانيّة في أثناء مرحلة التنظيمات، وانفتاح النخبة السياسيّة المركزيّة على مجموعات عرقيّة ودينيّة جديدة من جهة، وازدهار التربية الحديثة والحياة الثقافيّة في لبنان إبّان تلك المرحلة من جهة ثانية، ظاهرتان قادتا عددًا من شخصيّات جبل لبنان وبيروت المارونيّة إلى تَبَوّؤ مراكز ومسؤوليّات أساسيّة في الحكومة العثمانيّة والبرلمان بشكل خاصّ، وفي الدوائر السياسيّة العليا في إسطنبول بشكل عامّ. في ما يأتي عدد من أسماء تلك الشخصيّات المختارة:

سليمان باشا البستانيّ (1856-1925)
كاتب وشاعر في الأصل، ولد في بكشتين (الشوف) بمحافظة جبل لبنان. نقل “إلياذة” هوميروس إلى اللغة العربيّة، وكتب مقدّمةً مفصّلة وجوهريّة لها، وساهم في تحرير “دائرة المعارف”، أوّل موسوعة عربيّة حديثة أنشأها نسيبه المعلّم بطرس البستانيّ. بعدما أنهى دراسته، بدأ يعلّم في الكلّيّة الوطنيّة ببيروت التي أسّسها بطرس البستانيّ. كذلك عمل صحافيًّا في عدد من المجلاّت، فكتب في “الجنان”، و”الجنّة”، و”الجنينة”، وكان مترجمًا معتمدًا لدى قنصليّة أميركا في بيروت.
كان ناشطًا في مختلف أوجه النهضة الأدبيّة والفكريّة في بيروت، وتعلّم سبع عشرة لغة: العربيّة والسريانيّة على يد عمّ أبيه المطران عبد الله البستانيّ الذي علّمه عندما كان صبيًّا صغيرًا في بكشتين، والإنكليزيّة في كلّية بيروت الوطنيّة، إضافةً إلى الفرنسيّة والألمانيّة واليونانيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والبلغاريّة والمجريّة والبرتغاليّة، وأنواع مختلفة من اللغات السلافيّة واللاتينيّة والفارسيّة والعبريّة. وقد كان أيضًا متضلّعًا من اللغة التركيّة يتقنها كما الكتّاب الأتراك البارزون. كما أنّه تمرّس بلغة “الغجر” وحاول أن يجعل منها لغةً مكتوبةً. وكان عالمًا أيضًا بالرياضيّات، والكيمياء، والقانون، والزراعة، والتجارة، وعلم المعادن، وعلم الاجتماع، ومارس الكتابة بالاختزال. كما كان مخترعًا، إذ سجّل ثلاث عشرة براءة اختراع.
ولأنّه كان مشغوفًا باللغة العربيّة وآدابها، أراد أن يستزيد عن تاريخ العرب ومصادر الشعر العربيّ. وقد دعاه وجهاء مدينة البصرة العراقيّة، قيادة قاسم باشا زهير، إلى تأسيس مدرسة وإنشاء صحيفة في المدينة. فذهب إلى هناك العام 1876، عندما كان في العشرين. نظّم المدرسة والصحيفة، وترك التجارة لوقتٍ لاحق حتّى تتوسّع دائرة معارفه بالبدو الذين طالما اعتبرهم مصدر الشعر العربيّ. كما تمّ تعيينه عضوًا في المحكمة التجاريّة في البصرة ومديرًا لشركة عمان الخديويّة العثمانيّة للملاحة. وقد أسّس حاكم العراق مدحت باشا، الذي عيّنه السلطان عبد الحميد الثاني في هذا المركز، مصنعا للحديد في البصرة مرتبطًا بشركة الملاحة. وبعد رحيل مدحت باشا تراجع أداء المصنع وعُيِّن سليمان البستانيّ، الذي كان يتمتّع بصلاحيّات واسعة فيه، مديرًا له، وقد نجح في إعادة هيكليّته وفي جعله منشأة مربحة مجدّدًا.
وكان سليمان البستانيّ مولعًا بالسفر، فقد زار العراق، واليمن، وحضرموت في شبه الجزيرة العربيّة ليكتشف الأماكن كلّها التي تمّ ذكرها في الشعر العربيّ. وأفاد من تلك الرحلات ليكتب عن البدو لناحية علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في مجلّة “المقتطف” اللبنانيّة-المصريّة في العام 1887، وفي المجلّد الحادي عشر من “دائرة المعارف”. وكانت كتاباته عن البدو محدّدة فركّز على كلّ قبيلة بحدّ ذاتها ونشر إحصاءات عن البدو في سوريا، والعراق، وهضاب الأناضول، ونجد، والحجاز، وعمان. ثمّ عاد إلى بيروت وذهب إلى إسطنبول كي يحصل على ترخيص نشر “دائرة المعارف” بترجمتها التركيّة. كانت الإجراءات طويلة، وعلى الرغم من أنّه كان مقرّبًا من النافذين العثمانيّين إلاّ أنّه لم يتمكّن من الحصول على الترخيص. فغادر إلى مصر في العام 1887 وترك القاهرة بعد سنة متّجهًا إلى العراق، والهند، وبلاد فارس حيث أمضى سنوات عديدة من حياته وهو يتعلّم من الفارسيّة تقاليدها وأدبها كي يغني مقدّمته عن “إلياذة” هوميروس ويشرحها. بقي في العراق سنوات عديدة وتزوّج امرأةً ثريّة في بغداد وعمل مدّة سنتين مترجمًا لـ”لإلياذة”، ثمّ كتب تاريخ العرب.
وبعدما عاش سبع سنوات في إسطنبول، أوكلت إليه إدارة القسم التركيّ لشركة “شيكاغو فير” (Chicago Fair) في العام 1893. فأنشأ في شيكاغو أوّل جريدة تركيّة أُجبِرَ لاحقًا على إيقافها بسبب الخسارات التي تكبّدتها، وفي ظل غياب دعم السلطان عبد الحميد الشركة.
إبّان إقامته في إسطنبول، حاول ووزير الشؤون الاجتماعيّة أن يشرع في إعادة تأهيل شبكة الريّ في العراق، فكتب تقريرًا مفصّلاً عن هذا الموضوع متوسّعًا في المعلومات عن العراق، وكان بذلك أوّل مَن تناول الموضوع. كما أنّه مُنِحَ امتياز إنشاء شبكة مياه الشرب في بغداد وضواحيها تعمل على المضخّات البخاريّة. لكنّه لم يُفلح في ذلك.
في العام 1903، عاد إلى بلدته اللبنانيّة وارتاح فيها، يخبر أقرباءه عن سنوات سفره الأربعين ويعلّم نسيبه الأدب العربيّ ويعمل على شرح “الإلياذة” بعدما أُنجِزَت الترجمة. ثمّ سافر إلى مصر حيث حرّر مع بعض أقربائه الجزء التاسع من “دائرة المعارف”، ونشر الجزءين الحادي عشر والثاني عشر. تمّ تعيينه رئيس “اتّحاد الكتّاب” وعضو مجلس إدارة في الجامعة المصريّة. صدرت ترجمة “الإلياذة” في العام 1904 في القاهرة ولاقت نجاحًا منقطع النظير. وقد تنقّل بين 1904 و1908 بين مصر، وسوريا، ولبنان، وحضّر كتابه “عِبَر وذكرى” الذي تناول فيه وضع الأمبراطوريّة العثمانيّة وضرورة الابتعاد عن التعصّب وتبنّي الحرّيّة ضمن إطار معقول من أجل إصلاح المجتمع العثمانيّ والدولة. صدر هذا الكتاب تمامًا بعد تطبيق الدستور في العام 1908. ولاقى نجاحًا باهرًا بحيث طلبت لجنة “Itihad Ve Taraki UPC” إلى سليمان الانضمام إليها. وأصبح تاليًا أحد أعضائها الفعّالين، كما انتُخِبَ ورضا بك الصلح نائبين على ولاية بيروت في مجلس النوّاب العثماني (“مجلس المبعوثان”). أعرب كثيرون عن تقديرهم إيّاه ولا سيّما وزير الحرب شوكت باشا. كما ساهم في “مجلس المبعوثان” وفي التقرير الذي أدّى إلى خلع السلطان عبد الحميد الثاني في العام 1909. تمّ انتخابه متحدّثًا ثانيًا باسم “مجلس المبعوثان” في العام 1910 وترأّس لجانًا مختلفة والوفد السلطاني إلى أوروبّا، بما في ذلك الوفد الذي أعلن رسميًّا للولايات تولّي السلطان محمّد رشاد العرش العثمانيّ. كذلك، حضّ الوفد العثمانيّ البرلمانيّ على زيارة البرلمانات الأوروبيّة، ولا سيّما البرلمان الإنكليزيّ، حيث التقى الملك وزار الجامعات، والمكتبات، والمتاحف في بريطانيا. إضافةً إلى ذلك، أسّس لجنة برلمانيّة دوليّة ليوسّع العلاقات بين البرلمان العثمانيّ والبرلمانات الأخرى. ومن اللجان الأخرى التي أسّسها أيضًا لجنة التحكيم العثمانيّة الدوليّة من أجل منع حصول سوء تفاهم بين السلطنة العثمانيّة والدول الأخرى، وعزّزها بجمعيّة مرتبطة بها ذات فروع في الولايات العثمانيّة كافّة لتطوير الأخوّة بين العثمانيّين مهما كانت أعراقهم أو قومياتهم أو دياناتهم. وافق “مجلس المبعوثان” ومجلس الأعيان على هذه الخطوة. وترأّس سليمان هذه الجمعيّة.
دعم سليمان البستاني استخدام اللغة العربيّة في المدارس الرسميّة وبعض المكاتب الرسميّة في الولايات العربيّة للسلطنة العثمانيّة. ورعى انتشار الأوامر الرسميّة التي تمنع توظيف الأشخاص الذين لا يتقنون اللغة العربيّة، وأجبر المدارس “الإعداديّة”، و”الرشديّة”، و”السلطانيّة” على الاستعانة بأساتذة لغة عربيّة، والحرص على استخدام الأطبّاء والصيادلة المتخرّجين في جامعات أجنبيّة في البلديّات والمستشفيات. ولم ينسَ أن يهتمّ بشعب بلده لبنان، ولا سيّما هؤلاء المهاجرين، فنظّم لجنة رسميّة تعالج مشكلاتهم. كما دفع إلى إنشاء قنصليّات عثمانيّة في أماكن انتشارهم الأوسع، ودعم قرار “مجلس المبعوثان” الذي يقضي بتخصيص بعض الأموال للقنصليّات. كذلك، حمى حقوق “البيروتيّين” في مكتب الصنائع وحضّ وزارة الأشغال العامّة على تصليح سيّارات النقل العام التي تعمل على خطّ بيروت-دمشق. اهتمّ بالمصالحة بين الأرثوذكس العرب العلمانيّين ورجال الدين الأرثوذكس اليونان في فلسطين، عندما نشبت الصراعات على إدارة الوقف وتأليف المجالس المختلطة. كما دعم حظر الضرائب غير القانونيّة في العراق واليمن، وسوء معاملة السلطات العثمانيّة قبائل البدو.
حاول أن يحلّ كلّ أنواع سوء التفاهم بين الأتراك والعرب لمصلحة الطرفين المشتركة. دافع عن السمعة الوطنيّة في الجرائد الفرنسيّة والإنكليزيّة وأقنع الأوروبيّين وغيرهم بأنّ الدستور العثمانيّ يتماثل والشريعة الإسلاميّة. ثمّ أُرسِلَ إلى لبنان وولاية بيروت في مهمّة رسميّة، وعندما عاد إلى إسطنبول في العام 1911، عُيِّنَ سفيرًا استثنائيًّا للبلدان الأوروبيّة بحيث مثّل الدولة العثمانيّة في روما، وباريس، ولندن، وبرلين، وسان بطرسبرغ، وفيينا.
لم يكن نائبًا لفترة طويلة من الزمن، لأنّ السلطان عيّنه عضوًا في مجلس الأعيان. وعُرِض عليه أن يكون مسؤولاً عن بعض الوزارات، فقبل في النهاية أن يكون وزير التجارة، والغابات، والزراعة، والمناجم في عهد الصدر الأعظم الأمير سعيد حلمي في العام 1913. في منصبه هذا، عارض قرار الحكومة العثمانيّة الذي يقضي ببيع أراضي غور بيسان في فلسطين إلى شركة “روتشيلد”. وكانت هذه الأراضي ملكًا للسلطان عبد الحميد الثاني. فهدّد بالاستقالة، ومزّق أنور باشا العقد بعدما كان قد وقّعه، وبقي غور بيسان ملكًا للسلطان.
كذلك، كان مسؤولاً عن معاهدة السلام بين تركيا وبلغاريا بعد انتهاء حروب البلقان. لهذا السبب أراد السلطان أن يعيّنه سفيرًا في لندن، إلاّ أنّ سليمان البستانيّ اعتذر عن عدم قبول ذلك المنصب لأسباب صحّيّة. وبقي وزيرًا حتّى اندلاع الحرب العالميّة الأولى، وحاول أن يقوم بقصارى جهده ليحول دون دخول السلطنة العثمانيّة هذه الحرب. لكنّه لم يكن قادرًا على التخفيف من حماسة طلعت باشا وأنور باشا، فقدّم استقالته وسافر إلى سويسرا.
تبعه طلعت باشا إلى سويسرا وحاول إقناعه، واعدًا إيًّاه بتوفير معاملة جيّدة للولايات العربيّة. فطلب إليه البستانيّ أن يحاول الوصول إلى اتّفاقات سلام. وعملا معًا على إنجاز هذا الأمر لكن من دون جدوى. أُرهِق البستانيّ وكانت صحّته تتدهور، فكان عليه أن يخضع لعمليّات جراحيّة متعدّدة في سويسرا ومصر. عند انتهاء الحرب، طلب إليه مصطفى كمال باشا (أتاتورك) المجيء إلى أنقرة من أجل منصب مهمّ في الحكومة. لكنّ سليمان البستانيّ كان عاجزًا عن الردّ إيجابًا على هذه الدعوة. فغادر إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، حيث عاش في نيويورك عند أحد أقربائه، وعانى مشكلات صحّيّة ولا سيّما في عينيه، قبل أن يموت في نيويورك في الأوّل من حزيران في العام 1925.

سليم باشا ملحمة
درس في “ليسيه” غلاطا سراي بإسطنبول وكان موظّفًا رفيع المستوى في إدارة الديون العمومية العثمانيّة. في بداية القرن العشرين، عُيِّنَ وزيرًا للمياه والغابات، ثمّ حاكمًا على ولايات عثمانيّة مختلفة في أوروبا الشرقيّة في العام 1909. أدّى دورًا بارزًا اثناء حكم السلطان عبد الحميد الثاني، ولا سيّما في اختيار المتصرّفين على “لواء جبل لبنان”. بعد تلك الفترة التي أمضاها في الدولة العثمانيّة، تقاعد وذهب إلى سان ريمو الإيطاليّة حيث توفّى.

خليل غانم
كان سياسيًّا فاعلاً في إسطنبول، وأحد كتّاب الدستور العثمانيّ مع مدحت باشا في العام 1875. وقبل ذلك، كان “ترجمان” والي دمشق العثمانيّ مدحت باشا إلى أن أصبح هذا الأخير “الصدر الأعظم”. بعد العام 1875، أضحى أحد قادة الحركة الليبيراليّة العثمانيّة في فرنسا، عندما علّق السلطان عبد الحميد الثاني الدستور فقال له غانم قبل هربه إلى فرنسا: “الدستور هو القانون، والقانون فوق السلطان”. في فرنسا، ساهم في تحرير جريدة Journal des Débats، ووضع كتابين هما: “الاقتصاد السياسيّ” (1906)، و”السلاطين العثمانيين” (في مجلّدين).
من الشخصيّات الأخرى، نذكر الجنرال رامي من فالوغا، والجنرال نجّار من دير القمر وهما من جبل لبنان، وضبّاطًا في الجيش العثمانيّ؛ ونجيب باشا ملحمة (شقيق سليم) الذي عاش في إسطنبول صحافيًّا. سرت بعض الشائعات تقول إنّه كان ضابطًا في المخابرات السرّيّة العثمانيّة التاسعة للسلطان عبد الحميد.
اختارت هذه الشخصيّات المذكورة أن تؤدّي دور المواطن والقائد العثمانيّ الفعّال، وأن تعتبر الأمبراطوريّة العثمانيّة دولتها وموطنها.

الموارنة في وسط جنوب تركيا
إبّان احتلال إبرهيم باشا، ابن محمّد عليّ باشا حاكم مصر، الذي ثار على السلطان واحتلّ الجزء العربيّ من آسيا وجزءًا من الأناضول في ثلاثينات القرن التاسع عشر، بَنَت السلطات المصريّة مرفأ في مرسين وشجّعت تصدير إنتاج القطن، تمامًا كما فعل محمّد عليّ في أجزاء أخرى من مناطق حكمه الجديدة. بعد انهيار الثورة وانسحاب القوّات المصريّة إلى مصر، بقيت زراعة القطن في مرسين، وطرسوس، وأضنة، وبعض الأجزاء الأخرى من تركيا، بسبب الحاجة الأوروبيّة إليها ولا سيّما في أثناء الحرب الأهليّة الأميركيّة.
منذ ستّينات القرن التاسع عشر، وبسبب حفر قناة السويس في مصر، احتاجت اشغال بناء القناة إلى جذوع الأشجار لتحفظ الرمال على جانب القناة من الانزلاق الى كعبه. وقد ساهمت هذه الحاجة في بدء عمليّات استيراد جذوع الأشجار من جبال طوروس إلى مصر عبر مرفاء مرسين الذي كان قد تمّ بناؤه قبل عقود، الى مرفأ بور سعيد.
كذلك، منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، تطوّرت مدينة مرسين فأصبحت مرفأ لتصدير القطن، وهي زراعة ازدهرت في ظل الاحتلال المصريّ وبعده أثناء الحرب الأهليّة الأميركيّة. ارتفعت أسعار القطن بسبب الحصار الذي فرضته قوّات الشمال البحريّة على جنوب الولايات المتّحدة الأميركيّة المُنتِجة هذه المادّة. نتيجةً لذلك ازداد الطلب على القطن، وازدهرت زراعته في المناطق التي كان نهرا سيحان وجيهان يرويانها بشكل أساس. وكان هذا الإنتاج يُصدَّر بشكل خاصّ من خلال مرفأ مرسين.
نتيجةً لتوسّع التجارة الأوروبيّة، وتطوّر الملاحة البخاريّة، وتدفّق رؤوس الأموال الأوروبيّة المتزايد، بسبب حاجة أوروبا إلى الموادّ الخام والأسواق لمنتوجاتها المصنّعة، ازدهرت قطاعات الزراعة، والصناعة، والتجارة، والبناء، والخدمات في السلطنة العثمانية ايضاً. لم يكن هذا التحفيز الخارجيّ ليسفر عن أيّ تغيير ملموس لولا استجابة سكّان من المناطق المدينية والريفيّة التركيّة للفرص الجديدة.
من الواضح ان السلطنة العثمانيّة عرفت نموًّا عامًّا للاقتصاد والتجارة الخارجيّة. وقد جذب هذا النموّ وفرص العمل والاستثمار الناتجة منه مهاجرين لبنانيّين وسوريّين، من بينهم العديد من العائلات المارونيّة. الجدير بالذكر أنّ وجود العائلات المارونيّة في طرسوس يعود إلى العام 1827 على الأقلّ عندما تأسّست إرساليّة من رهبانيّة الآباء الأنطونيّين الموارنة في طرسوس على عهد البطريرك المارونيّ يوسف حبيش. وفي العام 1856، أمر البطريرك المارونيّ بولس مسعد ببدء بناء كنيسة ودير صغير في طرسوس لرهبانيّة الآباء الأنطونيّين الموارنة، وقد كان بطرس الغزيري رئيسها. فاشتروا الأرض في العام 1857. وفي رسالة رفعها الدكتور بطرس إلياس ناصيف لبكي في العام 1902 إلى “رئيس عامّ رهبانيّة الآباء الأنطونيّين الموارنة الموقّر” عمّانويل البعبداتيّ، إشارة إلى الدور الذي أدّاه الدكتور بطرس إلياس ناصيف لبكي في إصلاح الدير. ويعود تاريخ الرسالة إلى الرابع من أيّار 1902 وهي محفوظة في أرشيف رهبانيّة الآباء الأنطونيّين الموارنة العامّ.
ومن بين تلك العائلات المارونيّة، نذكر: عائلة لبكي من بعبدات، المتن (لبنان): أوّل المهاجرين كان ناصيف إلياس لبكي في الستّينات من القرن التاسع عشر. أتى إلى أضنة وكان ناشطًا في تصدير القطن الى أوروبا وجذور الاشجار الحرجية لدعم جانبي قناة السويس إلى مصر. فتشجع أخوه الدكتور بطرس الياس ناصيف لبكي، الجرّاح المتخرّج في الكلية الانجيلية السورية (الجامعة الاميركية لاحقاً) في بيروت في العام 1878 على العمل في المستشفى البلديّ في أضنة. كما أسّس الدكتور بطرس الياس ناصيف لبكي مصنعًا لحلج القطن وآخر لإنتاج ألواح الثلج في أضنة. وأنشأ شركة مقاولات في حقل الأشغال العامّة، ونشط في زراعة أنواع متعدّدة من أشجار الليمون والكرمة في بساتين في أضنة وجيهان. كذلك، فقد بنى بيوتًا ومحلاّت للإيجار وكنيسةً مارونيّةً في أضنة، وساهم في بناء دير للرهبنة الأنطونية المارونية في طرسوس. وكان يسافر كل سنة الى اوروبا ويجلب منها الى اضنة الآلات والتجهيزات الجديدة. بعد وفاته العام 1913، وأثناء الحرب العالميّة الأولى، استضافت عائلته مطران بيروت المارونيّ المنفيّ بطرس شبلي وأمين سرّه الأب إغناطيوس مبارك (مطران بيروت المارونيّ في ما بعد). توفى المطران شبلي في منزل الدكتور بطرس الياس ناصيف لبكي بأضنة، ودُفِنَ في مدافن عائلة لبكي في المدينة نفسها. ثمّ نُقِلَ جثمانه إلى لبنان أثناء فترة الاحتلال الفرنسيّ القصيرة لكيليكيا. وقد جذب الدكتور بطرس الياس ناصيف لبكي أفرادًا آخرين من اقربائه: الصيدليّ لحّود نهرا لبكي، والطبيب الدكتور توفيق سليم سلهب (والد النائب المرحوم اميل سلهب وجد النائب الدكتور سليم سلهب) وسعيد (فيليكس) لبكي، ونصري لحّود (صهر الدكتور بطرس لبكي). وكذلك حضرت عائلات مارونيّة أخرى من مثل عائلة نوفل (مكتبة أنطوان) من حلب، وعائلة زبليط من طرابلس وغيرها. وقد سكنت عائلات أخرى في إسكندرون مثل عائلة بولس (عائلة المرحوم جان كلود بولس مسؤول تلفزيون لبنان وتلفزيون السومرية).
غادرت هذه العائلات إلى لبنان تدريجيًّا بعد انهيار السلطنة العثمانيّة. وقد أُقفِلَت الكنائس المارونيّة تدريجياً نتيجةً لذلك. حاليًّا، وبحسب المصادر الكنسيّة في مرسين، يصل عدد الموارنة في المدينة إلى 250 شخصًا (40 إلى 50 عائلة)، منها نذكر عائلات: صلوحي، وبولس، ونوفل، وشلفون، وسعد، وموصلّي، وفتّال، وصايغ، وزبليط. أمّا كنيسة القدّيس جرجس المارونيّة في مرسين فتحوّلت إلى جامع النصرتيّة (URAY Cadessi: SOKAK31Nusretiye Cami)
كان ثمّة في طرسوس دير مارونيّ تابع لرهبانيّة الآباء الأنطونيّين المارونيّة حتّى ثلاثينات القرن العشرين. وكان الراهب الكبّوشيّ بول لبكي يخدم كنيسة سيّدة الخلاص حتّى منتصف الخمسينات. حاليًّا ثمّة جماعة مارونيّة من العلمانيّين يخدمها الآباء الكبّوشيّون. أمّا في أضنة فتلاشت الجماعة المارونيّة مع وفاة جورج زبليط نهاية القرن الأخير. يسكن في منطقة إسكندرون نحو ثلاثين مارونيًّا. ويهتمّ الآباء الكبّوشيّون بحياة الموارنة الرعويّة فيها كما في مرسين.
يعتبر هؤلاء الموارنة المقيمون في جنوب وسط تركيا، إضافةً إلى آبائهم وأجدادهم، تركيا موطنهم، والجهموريّة التركيّة دولتهم.

(النهار)

السابق
أطباء موالون لـ«عون» عالجوا رستم غزالي؟!
التالي
تقدم حذر إلى تكريت و«داعش» يتجنب المواجهة