فان الدورة.. متى سننفجر جميعاً؟

أقلّ شهرةً من قرينه الرقم 4. يربط مناطق مختلفةً من بيروت الكبرى ببعضها البعض. “رائد الوحدة الوطنية”. إنّه فان الدورة. يمكن لفان الدورة أن يظهر في أيّ مكان على طريق المطار، بدءاً من جسر الكوكودي، وصولاً إلى أسفل جسر المطار. يملك محطّاتٍ أساسية في رحلته، وإن كانت غير رسميّة، قرب “كريمينو”، أسفل جسر المطار، عند جسر البربير، وعند تقاطع بشارة الخوري.

مشكل رقم 1
يتوقّف الفان قبالة الإشارة الحمراء أسفل جسر المطار. يلملم بعض ركّابه، من العمال السوريين، أغراضهم للنزول. يصرخ السائق طالباً منهم الإسراع قبل أن تخضرّ الإشارة. لا تساعدهم الأغراض الثقيلة على النزول بسرعة. تخضرّ الإشارة. تبدأ السيارات الآتية من دوّار شاتيلا بإطلاق أبواقها، يبدأ السائق بالصراخ. “قلتلكن أسرعوا. شو بدكن فيهن هالصناديق. قولولي شو بدكن فيهن. أخدينهم لداعش!؟”. يحاول الكهل السوري الباقي مع ابنه في الفان تهدئة السائق. لا يعيره السائق أدنى اهتمام. ينظر الإبن إلى والده معاتباً وحانقاً.

ركّاب فان الدورة
يتغيّر ركّاب الفان خلال فترات النهار. في الصباح الباكر يكون معظم الركّاب من العمّال السوريين، الذاهبين إلى الدورة، إمّا لتواجد أعمالهم هناك، وإمّا لينطلقوا منها إلى أماكن أخرى. مع تقدّم ساعات النهار يطرأ تغيير على نوعيّة الركّاب. باستثناء بعض الأشخاص الذين يذهبون لشراء أغراضٍ محدّدة يملؤون الفان بها، أو لإنهاء بعض المعاملات، أو اختصاراً لمسافاتٍ قصيرة، فإنّ غالبيّة الركّاب هم من العمال والموظفين، من جنسيات مختلفة: لبنانيون، فلسطينيون، سوريّون، أثيوبيات، وبنغلادشيون. عند الغروب، وبعده، ترتفع مجدّداً حركة العمّال السوريّين العائدين إلى بيوتهم في صبرا والرمل العالي بعد يوم عملٍ طويل.
معظم سائقي فان الدورة وركّابهم، على اختلاف جنسياتهم، هم من سكّان المناطق الفقيرة في الضاحية الجنوبية لبيروت. وعلى الرغم من عبور الفان في عددٍ من الشوارع الحيوية في العاصمة، إلّا أنّ عدد مرتاديه من أبناء المدينة ضئيلٌ، إذ يفضّل هؤلاء عادةً استعمال سيّاراتهم الخاصة أو سيارات الأجرة في تنقّلاتهم. وإن كان عدم صعود أيّ راكبٍ في الفان بعد عبوره محطّة شارل الحلو، على الأوتوستراد الواصل بين المحطة والدورة، لانتشار المصانع والشركات الكبرى ووكالات السيّارات، لا يحمل أيّ انعكاسات، فإن قلّة الركّاب من أبناء المدينة الذين يلجؤون إلى فان الدورة، على طول الطريق الممتد من قصقص إلى الصيفي، مروراً بساحة الشهداء، يعكس العلاقة الملتبسة بين الضاحية وبيروت، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، كما يعكس بشكلٍ ما حالة الصراع السياسي والطائفي في البلد.

مشكل رقم 2
عند المنعطف المؤدّي إلى برج البراجنة، “تكسر” إحدى السيارات أمام الفان. يطلّ سائق الفان برأسه من الشبّاك ويصرخ: “ولاك شو باك!؟”. يتوقّف سائق السيارة أمّامه. يترجّل من سيارته، “أنت شو باك؟”. ينزل سائق الفان على الأرض. لا يأبه بمحاولة الراكب إلى جانبه ثنيه عن النزول. يصرخ الرجلان على بعضهما البعض. يتدافعان. لا شتائم حتّى الآن، صراخٌ فقط. تكتفي عناصر أمنيّة من “حزب الله” بالتفرج فقط. يسحب سائق السيّارة، تليفونه من جيبه. “أنا بفرجيك”. “لمين بدك تدق؟”. يواصلان الصراخ. بعد لحظات يخفّف سائق الفان من حدّة كلامه. ينتهي المشكل. “أنا كرمالو. مرتو معو بالسيارة. بعدين لمين بدو يدق؟ لعلي …؟ علي … بكون ابن خالي. بعدين شباب الحزب هودي، أنا مسؤول عنهم. أنا كرمال ما ياكل قتلة قدام مرتو”.

الدورة
ينزل الجميع من الفان عند وصوله إلى جسر الدورة. تتشابه ساحة الدورة مع ساحة الكولا، برغم مساحتها الأكبر. تعد الاثنتان من أهمّ مراكز النقل في لبنان، وتتميّزان بفوضويّتهما. ستجد هنا كلّ شيء. مقاه، مطاعم، عربات خضار وقهوة، محال أجهزة خلويّة، مصارف، باصات مقبلة، وأخرى راحلة، دبّابةٌ للجيش مع عددٍ من العناصر أسفل الجسر، والكثير الكثير من الناس والضجّيج. وسط هذه الفوضى العارمة، تظهر لافتة كتب عليها: “موقف لحظة لفانات طريق المطار عدد 2 بموجب قرار صادر عن محافظة جبل لبنان”. تتابع الفانات الوقوف قرب هذه اللافتة. يتدافع الناس للصعود في الفان، مع عائلاتهم وأغراضهم، لينطلق باتّجاه طريق المطار ويقف فان آخر مكانه. يسعى السائقون ومن خلفهم أصحاب الموقف لإضفاء مظهرٍ منظّم، أو مؤسّساتي على عملهم. يدفع الجميع رسم اشتراك، يقفون بالدور، فيما ينظّم شابٌ يحمل لاسلكياً العمليّة بأكملها.

مشكل رقم 3
“نزلني هون”. “ع المفرق؟”. “نزلني هون”. “وين؟”. “هون، هون، ورصاص!”. يتوقّف السائق قرب مستديرة شاتيلا. تقترب المرأة التي تريد النزول من السائق وتناوله الألف ليرة. “ولو، عم أسألك وين بدك تنزلي، بتقوليلي ورصاص؟ فكّرتك نازلة ع المفرق قدّام”. تنزل المرأة، ويبدأ رجل عجوز بالكلام. “شو بلا أخلاق. لازم نقتل كل غريب بهالبلد. متل ما بتعمل داعش. أصلاً ما في أوسخ منا نحنا اللبنانيين إلا السوريين”. ينزل الرجل، ويعمّ الصمت في الفان.
يخرج في الفان أسوأ ما في الناس من عنصريّة، وشموليّة، وذكوريّة مفرطة، واستقواء بالأحزاب، ونزعاتٍ عشائريةٌ. لكنّها تبيّن الاحتقان الموجود في المجتمع. أي كلمة، أو فعلٍ صغير، يؤوّل ويرمّز ويصير له أبعاد طائفية وسياسية وعنصرية. وفيما عملت الدولة بأقطابها المختلفين على تدمير قطاع النقل العام، خلال الحرب وبعدها، تعكس هذه الشجارات بأبعادها، وضعاً اقتصادياً واجتماعياً متأزّماً. يصير السؤال إذن: متى سننفجر جميعاً؟

(السفير)

السابق
كيف تزيد عدد زوار موقعك الإلكتروني؟
التالي
مجلس الوزراء يُعاود جلساته غداً «بِلا دَلَع» والحوار دخلَ في الرئاسة