روني عريجي: يلزمنا بنى تحتية للثقافة

روني عريجي

حين طُرح اسمه للمرة الأولى لكي يكون وزيراً، شعر ريمون عريجي ببعض القلق، إذ قيل إنه سيكون وزيراً للعمل، وبما أنه محامٍ ممارس، كان يعرف ما معنى هذه الوزارة التي تعاطى مكتبه معها مرات كثيرة. بيد أن «التركيبات» (و»الترتيبات») السياسية الدائمة التي يعرفها لبنان، جاءت به إلى وزارة الثقافة. حين سأله «سليمان بك» إن كان يعارض ذلك (وتسهيلاً لتكليف الوزارة)، أجاب «أتمنى»، مع العلم أنه «وبصراحة أتيت إلى وزارة لا أعرف عنها الكثير إلا بشكل عام».

صحيح أنه كمحامٍ، كان يفضل وزارة العدل مثلاً، نظراً لمعرفته بشجون المهنة كما بشجون القضاة، لكنه اليوم وبعد سنة ونصف تقريباً على ممارسته صلاحيته، يبدو أنه لا يشعر بالندم مطلقاً بل «على العكس، أشعر بالسرور، على الرغم من كل الصعوبات التي نعرفها في وزارة الثقافة، وعلى الرغم من قلة الإمكانيات، إذ أنها فتحت لي آفاقاً جديدة حيث تعرفت على أناس ومجالات لم أكن أعرفها سابقاً، فحياتي وعملي كانا بعيدين عن ذلك».
يقول عريجي إنه كان يشاهد المسرح والسينما مثله مثل كل الناس، بيد أنه لم يعرف يوماً ما هي شجون ومشكلات العاملين في هذين القطاعين – كما غيرها من القطاعات الثقافية – «لم أكن أعرف مشكلات الإنتاج ولا معاناة الفنانين. مع الوزارة، دخلت إلى عالم ما وراء الكواليس، إلى عالم جديد مليء بالآثار والمتاحف والأدب والفن.. لكن وبعيداً عن ذلك كله، تعرّفت إلى أناس رائعين يعملون في هذه المجالات كان عملي الأصلي يبعدني عنهم. التقيت بكثير من المثقفين، جلست معهم، تحدّثنا مطولاً، وأعتقد أن المرء يكسب الكثير حين يتعرّف إلى أشخاص مماثلين».
حول شؤون وزارة الثقافة وشجونها، أقيم نهار الاثنين الماضي في السفير حوار مع وزير الثقافة، حضره الزملاء: طلال سلمان (ناشر السفير) وأحمد سلمان (المدير العام المساعد) وعباس بيضون ونصري الصايغ والمهندس رهيف فياض والأمين العام للحركة الثقافية انطلياس أنطوان سيف، والروائية لينا هويان الحسن، حيث تشعبت الأحاديث التي أدخلتنا إلى «متاهات» العمل الوزاري (إن جاز القول) مثلما كشفت لنا العديد من المعوقات التي تمنع تطور الوزارة الفعلي.
عن «قلة الإمكانيات» بدأ الحديث، إذ أن الميزانية الممنوحة لوزارة الثقافة لا يمكنها أن تحقق الكثير فعلاً. يحب عريجي أن يقول عن الميزانية إنها «لا شيء» لو أحببنا أن نتحدّث عن الميزانية «فهي لا شيء. ميزانيتنا 10 ملايين دولار سنوياً، ويصرف القسم الأكبر منها على الرواتب والصيانة والمخصّصات، وما يتبقى لنا من مال نصرفه على تشجيع الأعمال الثقافية ونشرها». ما يتبقى منه، قليل جداً، لكن برأي عريجي أن المشكلة الأساسية «وبعد خبرة هذه الفترة التي قضيتها في الوزارة تكمن في أمرين: العدد الهزيل جداً من الموظفين، ربما عدد العاملين في دائرة الآثار وحدها أكثر من عددنا، لكنه يبقى قليلاً، وهذا أمر لا يمكن تعويضه». أما في ما يخص المال، لا يخفي الوزير أنه في كثير من الأحيان، تقوم الوزارة بطلبه من جمعيات ومتموّلين «وبصراحة، لم يرفض أحد بعد تمويل مشروع جدي له نص قانوني يضمن استمراريته»، أي حين يمتلك أي مشروع «مصداقية لا نجد أي مشكلة من جانب القطاع الخاص. تكمن المشكلة في العنصر البشري والمشكلة الأكبر برأيي هي مشكلة النقص بالبنى التحتية الثقافية».
مشكلات كبيرة
يرى عريجي أن الثقافة في لبنان بخير بمعنى وجود مثقفين ومبدعين وفنانين. لكن «الثقافة ليست فقط في أن يجلس المرء وحده ليكتب في عرزاله، يتطلب عصرنا أشياء أكثر من هذه. يلزمنا بنى تحتية مادية: يلزمنا مسرح كبير، ودار أوبرا ومتاحف متخصصة وأماكن لتعليم الناس وإقامة محترفات فنيّة. علينا إيجاد ذلك كله. يلزمنا أيضاً بنى تحتية قانونية أي مساعدة المثقفين والفنانين بقوانين وأنظمة – بالتأكيد لا أقصد تأطيرهم، لأن الثقافة لا تؤطر – ولكن لمساعدتهم. مثلاً هناك نشاطات ثقافية علينا إعفاؤها من الضرائب، علينا مساعدة المهن الفنيّة، لكي تنمو وتكبر. هذه البنى غير موجودة في لبنان، والمفارقة أن العديد من دول المنطقة، لديها هذه البنى لكنها تفتقد الى العنصر البشري، أما نحن فعلى العكس، نملك العنصر البشري ولا نملك هذه البنى. علينا فعلاً أن نبدأ بهذا الأمر وإلا فسنعاني في السنوات المقبلة من مشكلات كبيرة».
من المشكلات التي يلفت النظر إليها مثلاً، بسبب قلة الامكانيات، «الكونسرفاتوار الوطني» الذي «يضم العديد من المبدعين الحقيقيين كل سنة، ليس لدى الوزارة أي إمكانية في تسفير هؤلاء وإعطائهم أي منحة لإكمال الدراسة أو للمشاركة في محترفات ودورات تدريبية كي يُنمّوا هذه الموهبة. أضطر أحياناً إلى الالتفاف والطلوع والنزول كي أؤمن بعض المصاريف. الناس لا ترى من الكونسرفاتوار إلا الواجهة الجميلة منه: الأوركسترا، ولكن لا أحد يعلم أن هناك 4 آلاف تلميذ يتابعون دراستهم كلّ سنة، يعني نحن أمام جامعة حقيقية. ألا يستحق هذا الأمر الاهتمام به أكثر؟ لو تحدثنا عن الفروع المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية وعن الظروف المزرية التي يعملون بها لَخجلت. هل تصدّق: إن لم يهبنا أحد آلات لما وجدنا آلات ليتدرّبوا عليها؟». صحيح أن هناك مساهمة مالية من وزارة المالية تقدّم للكونسرفاتوار – (على اعتبار أنه مؤسسة عامة مستقلة منذ إنشائه وهو خاضع لوزير وصاية لا أكثر) – وهي ميزانية تعادل موازنة وزارة الثقافة «لكن المال يذهب بدوره للأساتذة والعازفين وإيجارات الأبنية، من هنا تبقى هذه الموازنة دون الحد المقبول ولا تسمح له بالتقدم أبداً». من هنا تسعى الوزارة حالياً مع الحكومة الصينية من أجل «عرض هو بين القرض والهبة لبناء مبنى كبير متطوّر للكونسرفاتوار «لذلك أتراسل مع وزير المالية من أجل إيجاد أرض، نحن بحاجة إلى 14 ألف متر ولا يمكن إيجاد ذلك في بيروت».
قوانين
بالتأكيد ليس «الكونسرفاتوار» وحده من يتعرّض إلى «هذا العذاب» اليومي. كل القطاعات الثقافية تعاني من مشكلات على مختلف الصعد، ليس لدينا قاعات مسرح تابعة للوزارة، ولا صالات سينما، ولا دار أوبرا مثلاً، ناهيك عن الكثير من الأمور الأخرى. إزاء ذلك كله، وربما بانتظار الفرج، انهمكت وزارة الثقافة في هذه الفترة الأخيرة في العمل على سن قوانين يجب أن تصبح موجودة. على سبيل المثال، يتفاجَأ المرء، أنه وبعد كل هذه السنين على إنشاء وزارة الثقافة، لم يكن هناك بعد «نظام للموظفين في وزارة الثقافة»، وقد تمّ مؤخراً إصدار مرسوم بذلك وأرسل إلى مجلس الخدمة المدنية كي يقيموا مباراة لمعرفة مَن يستطيع تسلم المهام. أيضاً وأيضاً، ليس هناك أي نظام للمؤسسة الوطنية للمتاحف. المكتبة الوطنية التي أقرّ إنشاؤها منذ سنوات، والتي بدأ العمل بها، ليس لديها أي نظام قانوني، لذلك عمل عريــــجي عليه وأرسله إلى مجـــــلس الشورى، قانون حماية الأبنية الأثرية التراثية غير موجود.
قد يستحق أمر حماية الأبنية التراثية التوقف عنده قليلاً. كل ما يستطيع وزير الثقافة فعله تأجيل الهدم لأشهر قليلة. بمعنى، إذا اعترض أحد بشكوى للوزير، يرسل فريقاً من المهندسين، وحتى إن كانت التقارير تفيد أن البناء المنويّ هدمه تنطبق عليه المواصفات، إلا أنه لا يستطيع القيام بأي شيء. إذ لا مال يتيح للوزارة تملك البناء، من هنا، ينتهي الأمر إلى اختفاء المبنى لتطل من مكانه بعد أشهر ناطحة سحاب. أضف إلى ذلك، يقول عريجي: «حين يأتيني صاحب البناء ويقول لي إني أنوي بيع هذا العقار من أجل تأمين المال كي يكمل أولادي دراستهم، ماذا يمكنني أن أفـــعل بعد. لو كان هناك المال اللازم لاشترت الوزارة البـــــــناء. لهذا كل ما نفعله هو تأخير الهدم قليلاً».
من جملة القوانين الأخيرة، قانون صندوق التعاضد للفنانين. قانون له سنوات وهو يدور في فلك الوزارات المتعاقبة. «نحن اليوم في مرحلة القراءة الأخيرة للمرسوم قبل الاتفاق النهائي عليه». أيضاً ومنذ شهرين، تمّ التحويل إلى مجلس النواب، وبمساعدة وزير المالية، مشروع قانون يقضي إلى إعفاء شركات الإنتاج السينمائيّ المحلية من نصف الضريبة على أرباحها «كي نشجعها على الإنتاج في لبنان وعلى التصوير هنا. لماذا عليهم أن يصوّروا خارج البلد هنا أو هناك؟ لو عرفنا كيف نجد لهم مكاناً ولو أوجدنا لهم بيئة فعلية لما اضطر فنانونا للخروج من البلد للتصوير، بل أيضاً لكنا جلبنا سينمائيين من الخارج ليصوّروا أعمالهم هنا».
يعيد الوزير عريجي ويشدّد في كلامه على ضرورة إنشاء البنى التحتية الثقافية، من هنا «اجتمعت قبل أيام مع عدد من أهل بالمسرح. كان ذلك وفقاً لطلبي، إذ خلال هذه الفترة التي قضيتها في الوزارة لم يأت إليّ أحد من أهل المسرح إلا السيدة نضال الأشقر التي كان لديها بعض المشاكل مع مسرحها وحاولت المساعدة قدر استطاعتي. في أي حال، طلبت منهم تقديم مشروع لأحاول المضي به. هذا ما أقصده بالبنى التحتية القانونية. كل هذا بحاجة إلى تشجيع، لكنه أيضاً يتطلب نظرة وخطة». من هنا «هناك ورشة قانونية كبيرة في الوزارة، هذه وزارة للمثقفين لا وزارة على المثقفين. وكما قلت الثقافة لا تؤطر، ولكن علينا أن نسنّ قوانين كي تستقيم الأمور وكي تساعد».
من الآثار والمعالم التراثية والحضارية المهملة التي يمكن أن تساعد مع غيرها «في أن تكون عاملاً مساعداً للاقتصاد الوطني لو عرفنا كيف نستفيد منها»، إلى إنشاء محترفات فنيّة وغيرها من الأمور، ثمة أحلام تخترق رأس وزير الثقافة.. لكن كيف يمكن تحقيقها في بلد تبدو كل وزارة فيه إمارة مستقلة بذاتها، حيث لا أحد يمكن له أن يتفاهم مع الآخر؟ لكن الأهم «ليس لدي أي ميزانية فعلية.. مش عم نِقّ.. لكن في الحقيقة ليس لديّ أي شيء».

(السفير)

 

السابق
بدء إزالة الاكشاك والبسطات ومواقف السيارات في العبدة عكار
التالي
لبنان يستقبل 20 آشورياً سورياً فروا من داعش