حقيقة الموقف الأميركي من الأزمة السورية

هل نذهب بعيداً للتأسيس لفكرة هذه المقالة التي ترصد الموقف الأميركي الراهن مما يجري في سوريا والمنطقة عموماً بالقول إن تفجير صراعات طائفية مذهبية كان في صلب اهتمامات العقل الصهيوني المؤسس لإسرائيل، والمدعوم أميركيا، لكي تظل دولة دينية قوية في وسط دويلات دينية ضعيفة ومتناحرة؟

لكن لماذا السير بعيداً إلى الوراء والنبش في “حكماء صهيون”، أعتقد يكفي التمعن بما قاله مراسل تلفزيون “العربية” في واشنطن هشام ملحم بالأمس القريب من على شاشة تلفزيون “العربية”، وهو المتخصص بالشؤون الأميركية، لإدراك حقيقة الموقف الأميركي مما يجري في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط عموما!

لقد نقل الأستاذ ملحم عن “البيت الأبيض ومستشاريه” قولهم بخصوص “المسألة العربية”، أن ما يجري اليوم في المنطقة العربية قد أطلق “صراعاً إسلاموياً سنياً / شيعياً يستنزف الطرفين”، وهو بطبيعة الحال لن “يهدد الحليف الإسرائيلي”، بل سوف يخدمه ويعزز دوره في المنطقة. إضافة إلى ذلك فهو قد فجر “صراعاً بين أصدقاء أميركا”. (تركيا، قطر، مصر، ودول الخليج الأخرى) من أجل إعادة “التموضع” في “شرق أوسط جديد”، لطالما تحدثت عنه إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، كجزء من استراتيجيتها المعلنة تحت عنوان “الفوضى الخلاقة”، وهو لا يزال متابعا، بطبيعة الحال، من قبل الإدارة الجديدة. وليس هذا وحسب بل هو يضع “أصدقاء أميركا” هؤلاء مجتمعين في طرف معادلة “الصراع مع إيران” يستنزفون بعضهم بعضاً. وفي النهاية كل منهم سوف تزداد حاجته إلى “الرضى الأميركي”، ولن يجدون بديلاً من أميركا للتدخل وفرض حلول معينة في الوقت الذي تشاء. وباعتبار أن العقل الاستراتيجي الأميركي يتميز بالكونية والشمولية، فهو والحالة هذه يستفيد من صراعات الشرق الأوسط وتطوراتها لدفع “روسيا والصين” إلى مزيد من الغرق في وحوله، واستنزاف قدراتهما، وفي الوقت ذاته يتم إنهاك قوى “الحلفاء الأوروبيين”. مخرجات هذه السياسة الأميركية كادت تكون ربحا صافياً، لولا ظهور “داعش” واجتياحها لمناطق واسعة من العراق وسوريا. فهي لم تكن “تكلف أميركا كثيراً”، ربما غير تكاليف تنقلات وزير خارجيتها ذات الصلة بهذه الصراعات. ومع أن “أهمية الشرق الأوسط” بحسب ما نقله الأستاذ ملحم عن أوساط “البيت الأبيض ومستشاريه” قد قلّت كثيراً، لكن ذلك لا يعني أن الإدارة الأميركية غير مهتمة بالمطلق بما يجري في الشرق الأوسط عموما وفي سوريا خصوصاً؟!!.على العكس، فأميركا كدولة عظمى، تنتشر مصالحها على امتداد الكوكب، لا تستطيع أن تترك مجريات الأحداث في المنطقة تتحكم بسلوكها السياسي، لذلك فهي تراقبها عن كثب، وتعمل على التحكم بها، وتوجيهها الوجهة التي تخدم مصالحها.
لقد صار معلوما بعد نشر رسالة الرئيس الأميركي باراك اوباما إلى أركان حكمه المؤرخة بـ12 آب 2010، بعنوان” الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” مؤخراً، إن إدارته كانت تتوقع حصول تغييرات كبيرة في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وإذا كان ما يسمى ثورات ” الربيع العربي” ليس صناعة غربية، أو إسرائيلية، كما صرح بذلك بعض المتحدثين في مؤتمر هرتسيليا للأمن، الذي عقد في إسرائيل مؤخراً، إلا أن الدول الغربية، قد تدخلت فيها بقوة وكثافة لتوجيهها بما يخدم مصالحها الإستراتيجية.
إن المتابع لمسار السياسة الأميركية تجاه ما يجري في سوريا على وجه الخصوص يجد أنها قد مرت بتعرجات وانعطافات كانت على ما يبدو ضرورية للوصول إلى النهاية المبتغاة، وهي تدمير سوريا، وإخراجها من دائرة الفعل والتأثير في المنطقة لعقود من السنين. ففي البداية أعلنت تشجيعها الصريح للتظاهرات في سوريا، حتى قيل إن سفيرها في دمشق روبرت فورد كان لديه شبه غرفة عمليات لمتابعتها. وعندما انتشرت ظاهرة العسكرة في صفوف المعارضين سارعت أميركا علناً لتشجيع تقديم السلاح والمال لهم. بل غضت النظر عن قدوم عشرات الآلاف من المتطرفين من مختلف بقاع العالم للقتال في سوريا ضد قوات النظام. ومن خلال إعلانها أن الرئيس السوري قد فقد “شرعيته”، ساهمت بتغذية الوهم لدى كثير من المعارضين، ولدى بعض السوريين بقرب سقوطه، مما ساهم بانتشار التطرف السياسي لدى بعض المعارضين، الأمر الذي جعل المطالبة بتنحيه، وتسليم السلطة شرطا مسبقاً لنجاح أية عملية تفاوضية. وفي هذا السياق أيضاً لم تبذل أي جهد فعال لنجاح مسار جنيف التفاوضي، وكان لقراءتها الخاصة لبيان جنيف الذي قامت عليه المفاوضات دورها في إفشال المفاوضات في جنيف، لا يقل عن دور النظام.
اليوم انقلبت السياسة الأميركية على كل ذلك، فهي لم تعد تكترث للمعارضة السورية في الخارج، ولم تعد تكترث للحلول السياسية للأزمة السورية، فتركتها لروسيا، ولم تعد تقول بضرورة تنحي الأسد وتسليم السلطة، بل بدأت تنظر إلى مسألة بقائه في السلطة، بحسب ما نشرته “الغارديان” بتاريخ 52/1/5102، بعين الرضا، وكضرورة لمحاربة “داعش”، والحؤول دون انهيار الدولة السورية، بعدما كانت تعده سببا لتفشي التطرف والإرهاب في المنطقة.
وكما في مسرحية “الخطوط الحمر” الأميركية التي اتهم النظام بخرقها باستخدام الكيميائي ضد شعبه، فكان يكفي أميركا تجريد النظام منه بدون أن تتدخل مباشرة لإسقاطه، لأنها حقيقة لم تكن جادة أبدا في إسقاطه، بل في “تغيير” سياساته، فهي اليوم لن تتورط أكثر في سوريا، ولا في المنطقة عموماً، فهي مكتفية بمساهماتها الجوية في الحلف الذي أنشأته لمحاربة “داعش”. ان التوجه العام للإدارة الأميركية بحسب هشام ملحم، هو عدم الاستعجال في التدخل المباشر والكثيف في المنطقة، طالما أن الجميع يحترم “الخطوط الحمر” الأميركية وهي حصول تهديد جدي لـ”أمن إسرائيل”، أو حصول تهديد استراتيجي لنظم وكيانات حليفة، وخصوصا نجاح الجهاديين بالوصول إلى “السلطة” في إحدى دول المنطقة، مما يهدد المصالح الأميركية. أميركا لا تسترشد أبدا بمصالح الشعوب العربية، وغير مكترثة للثمن الباهظ الذي تدفعه من دماء أبنائها ومن عمرانها واقتصادياتها طالما يصب ذلك في خدمة مصالحها، ومصالح حليفتها الإستراتيجية الوحيدة إسرائيل، فهل من معتبر؟!!

(النهار)

السابق
بالصور: ما هي الجلسة التصويرية الجديدة التي تقاضت عليها كيم كارداشيان«الملايين»؟
التالي
هل يراهن «داعش» على ليبيا واليمن؟