مابين جبل عامل وسوريا (10|10)

القرداحة

وذهبنا عصر اليوم التالي ورددنا لهم الزيارة في القرداحة التي تبعد عن سلاطة زهاء نصف ساعة وهي مركز ناحية ومديرها علوي من كيليكيا وهي أصغر من النبطية يبلغ نفوسها زهاء ألفي نسمة وبناؤها على الطراز القديم ويقام بها سوق كل يوم خميس يجتمع به أهل تلك الناحية. وبعد مبيتنا ليلتين بسلاطة ذهبنا لقرية الشيخ علي كامل (الرويمية) راكبين على الخيل والمسافة ساعتان ونصف وقد لقينا من الشيخ علي وولده أحمد أفندي كل كرم ومكارم وهو عميد عشيرته لذلك يؤم داره الضِّيفان من كل جهة، ومن عادة العشيرة عندهم أن تجمع لرئيسها مائة رأس أو مائتي رأس من الأغنام وهذه الضريبة حتمية إذا لم تدفعها العشيرة برضاها دفعتها بالقوة والجبر وقد يكلفون لدفع دراهم أيضاً مع فقرهم المدقع وذلك ليبقى بيت رئيس العشيرة مفتوحاً للرائح والغادي.

في سباتٌ من الجهل

وقد زارنا محرز أفندي صقر وهو أحسن شاب علوي كريم الأخلاق ويدرس الآن في الكلية العلمانية في بيروت فبات تلك الليلة في الرويمية وفي منتصف الليل أقبل الشيخ علي يستأذننا بالسفر للجبل لوقوع خلاف بين عشيرته واعتذر لنا فحبذنا سفره لإزالة الخلاف وفي اليوم الثاني ركبنا الخيول لزيارة محرز أفندي ووالده محمود أفندي وهو من وجوه العلويين وبلده اسمها (فدوي) وهي أكبر من الرويمية فألفينا محمود أفندي في اللاذقية ولما جاء مكثنا معه يسيراً ثم سافرنا بالسيارة التي جاء بها رغم إلحاحه بالبقاء والمسافة بين فدوي واللاذقية نصف ساعة لكن طريقها لم تتصل بالطريق العامة لذلك تكاد السيارة أن تتهور في ذاك الطريق الوعر التي لم تتجاوز مسافته عشر دقائق وقد رأينا قبل وصولنا إلى اللاذقية بنية جميلة فقيل لنا إنها المدرسة الزراعية التي بنتها الحكومة على نحو مدرسة سلمية لكن لا يؤمها إلا قليلون وهي واقعة على مقربة من اللاذقية بطريق صهيون فعلمنا أن القوم ما زالوا في سبات من الجهل ينفرون من التعليم وقد ينفرهم منه بعض مشائخهم الجامدين وزعمائهم الجاهلين لكنهم لم يلبثوا أن يخرقوا تلك الحجب ويلجون أبواب المدارس وقد بدت الطلائع (فأول الغيث قطر ثم ينهمل).

اللاذقية

بلغنا اللاذقية عصر السبت 14 صفر ونزلنا في نزل رويال وهو نزل جميل واقع خارج البلدة جامع لأسباب الراحة وبعد الراحة قليلاً أخذنا نتجول في أحياء البلدة وأسواقها فألفيناها ذات طرق واسعة وأحياء لطيفة وفيها عمارات بديعة متقنة وأكثرها للمسيحيين ومع أنها عاصمة حكومة العلويين فلم يلف بها منهم سوى بعض الموظفين. وقد زرنا محكمة الاستئناف الشرعية العلوية فألفينا رئيس المحكمة والقاضي وأكثر الأعضاء في قراهم ولم نشاهد هناك سوى كاتب القاضي الشيخ محمد محرز. والحال هنا عكس بانياس فإن الكتاب حتى المباشرين أصحاب لحى فضلاً عن القضاة وقد شاهدنا في الطريق شيخاً جليلاً ذا عمامة كبيرة ولحية مخصبة وأكمام طويلة عريضة فسألناه عنه فقيل لنا هذا الشيخ شهاب مفتي العلويين وهو من أكبر المماليَّين للسلطة وقد نقل لنا أنه محافظ على الصلوات الخمس وممالأته تلك لأغراض شخصية. زهناك على شاطئ البحر قهوة متقنة يؤمها اللاذقيون عصيرة كل يوم وقد شاهدنا بعض الأدباء ومنهم صديقنا منح أفندي هارون ورشاد أفندي رويحه وهو كفيف النظر له أشعار كثيرة نظمها في معتقله وأكثرها من الوطنيات وفي اليوم التالي زرنا السيد سهل باشا العلوي وهو شيخ جليل أربى على الثمانين وهو من السادة العلويين الذين في جاوى وحضرموت وسنغافورة وهم من أمراء تلك البلاد وله ولد اسمه عبدالله بك لطيف الأخلاق طيب الأعراق وهناك ابن أخيه يوسف بك الذي رأينا من لطفه ودقة فهمه ما أعجبنا به وإنك ترى رسمه هنا وهو معمم ولكنه الآن خلع العمامة ورسم أبيه والذي كان ملك ظفار. وصورة قبر أبيه الزائرون مزدحمون حوله ولم يمكِّننا هؤلاء الأشراف الأكارم من العودة حالاً بل أصروا علينا بأن نتناول معهم الغداء فلم يسعنا إلا تلبية طلبهم لا سيما أنَّا أنِسْنا بحديثهم الطلي وإنصافهم وصادق ولائهم لأجدادهم الطاهرين.

يومٌ شديد الحرّ

وبعد الغداء شيعونا كما استقبلونا بالإكرام ولم تعد السيارة فذهبنا مشياً على الأقدام والمسافة نحو عشرين دقيقة لأنهم يسكنون الآن في دار لهم خارج البلدة اسمها (دم سرخو) وكانوا يتقاضون في زمن الأتراك راتباً حسناً أما الآن فإن الحكومة تقصر أحياناً بإعطائهم الراتب لذلك لا يخلو الأمر من ضيق في عيشهم لكنهم من إباء النفس على جانب عظيم وكان ذاك اليوم شديد الحرّ فلقينا في اللاذقية من الحر ما لم نره بمحل آخر في سفرنا هذا لذلك بادرنا للرحيل.

برحنا اللاذقية الساعة العاشرة عربية فبلغنا بانياس عند غروب الشمس ولم يتيسر لنا سيارة لنتابع المسير لطرطوس فبتنا في بيت مأمور الطابو وطنيُّنَا منير أفندي كنعان وقمنا صباحاً لطرطوس وما لبثنا أن أقلتنا سيارة خاصة لرأس الخشوفة حيث زرنا هناك آل الحامد الكرام ولقينا من حامد أفندي المحمود كل لطف ومجاملة وتابعنا المسير لبرج صافيتا فنزلنا في منزل حقيرٍ وذلك أن امرأة وأولادها أعدوا غرفة في بيتهم للزائرين وإنك لتلفى من هؤلاء على بساطتهم أحسن مما تلفى في القصور الفخمة وقد جمعتنا الصدف بصديقنا القديم حسني أفندي الجندي الذي كان في عهد الأتراك رئيس المصرف الزراعي في صيداء وإن ننسى لا ننسى حملاته العنيفة على الاتحاديين وهو موظف عندهم وقد نمنا تلك الليلة في غرفة واحدة وجاء للتفتيش لأنه مفتش مالية حكومات الاتحاد السورية وأصبح اليوم مفتشاً للمالية في حكومة الوحدة السورية.

زعماء وشيوخ العلويين

وقد صادفنا في صافيتا الشيخ إسماعيل اليونس من شيوخ العلويين المعتبرين وزرنا معاً حاكم الصلح الياس أفندي غانم وهو مشهور بالعفة والنزاهة وتفرجنا على برج صافيتا وهو من صنع الصليبيين حسن الهندسة بديع الشكل مشرف على كافة تلك الجهات وقد جعل كنيسة للروم وهم الأكثرية في هذه البلدة وفي صافيتا هذه عدة عمارات متقنة وهواؤها حسن ولمّا علمنا أن صديقنا الشيخ عبد اللطيف إبراهيم المقيم في قرية بيت ناعسة سافر لجهات حمص عدنا في اليوم التالي إلى طرابلس ومررنا قرب قرية الطليعي التي يسكنها جابر أفندي العباس وهو اليوم من أكبر زعماء العلويين ورئيس المجلس التمثيلي وكان مرشحاً للحاكمية ولهؤلاء الزعماء تسلط مدهش على الشعب وهو إن ضعف أمره قليلاً فما زال شديد الوطأة وقد حدَّثَنا بعضهم أن أحد زعماء العلويين علم بقدوم رجل من أميركا لم يتقدم لزيارته ولثْمِ أنامله الكريمة لأن الرجل آت من بلاد الحرية فلم ير لهذه التشريفات من مسوغ لكن حضرة الزعيم أرسل رجاله فضربوه وقادوه صاغراً ولم ينج إلا بفدية لا تقل عن مائتي ليرة ولم أر كزعماء العلويين وشيوخهم قوماً لهم الأثر الكبير والتسلط المدهش على جماعتهم ومع ذلك فهم يخافون من الحكومة مخافة شديدة. وكانت المسافة بين صافيتا وطرابلس ساعتين ونصف ساعة وفي الطريق أمواه وسهول خصبة زرع أكثرها من الذرة الصفراء وأينما ذهبت في بلاد العلويين ترى عَمَلةً يشتغلون في إصلاح الطرقات والجسور والمعابر ولم نلبث في طرابلس حتى تابعنا المسير لبيروت فمررنا على القلمون بلد صاحب المنار فالبترون فجبيل ذات الآثار والعاديات المشهورة فنهر الكلب فجونيه وعدنا إلى الوطن نهار الأربعاء 18 صفر بعد غياب 35 يوماً والحمد لله في البدء والختام.

(شؤون جنوبية)

السابق
تجمع الفنانين التشكيليين استنكر إزالة الرسوم عن جسر الرويس
التالي
جريح في حادث سير على طريق الخردلي