الزعفران المرّ

لا أعرف كم تبعد دوما السورية عن طهران، او عن القدس، أو عن قريتي جبشيت في الجنوب اللبناني، عن منزلنا الذي فتحه والدي، لرجال أتوا من البعيد، استمع إليهم، صدقهم وصادقهم، وآمن بقضيتهم وتبنى نضالهم، وأخبرني يومها أنهم ثوار من بلد اسمه إيران، يناضلون لإسقاط ديكتاتور ظالم اسمه «الشاه«.

وفي محطات أخرى، في أماكن أخرى، كنت شاهدا على فرح أهلي وناسي ومتابعتهم لانطلاق الثورة حتى إعلان انتصارها، وقد غص منزلنا في قرية كيفون في جبل لبنان، يومها بالمهنئين والمحتفلين، من كل الانتماءات والطوائف والاتجاهات، واحتفلنا أيضا في معسكر التدريب الأول للحرس الثوري، الذي أقيم في ذلك الوقت تحت إشراف المناضلين الراحلين خليل الوزير وهاني فحص، وتابعنا عودة الخميني من منفاه الباريسي في «نوفيل شاتو»، وسرعان ما انضممنا إلى حضن الثورة، وبدأت رحلتنا كعائلة إلى منفانا الاختياري في طهران، بعد الاجتياح الإسرائيلي.

بعد 36 سنة على الثورة الايرانية، التي أودعناها أحلامنا وآمالنا، وآمنّا أنها تنطق بلساننا وتتكلم بلغتنا، فإذا بها، تملك لغتها الخاصة المختلفة، التي لا تختلف كثيرا عن لغة الحديد والنار التي يتقنها من استبد بنا وظلمنا طيلة عقود مضت، مضافا إليها أربع سنوات على خريف الأنظمة العربية الديكتاتورية، وتأخر مواعيد الربيع العربي، وعجز النظام العربي الرسمي عن إيقاف انهياراتنا وتفسخنا وتفتتنا. تدفعنا مشاهد أشلاء الأطفال المتناثرة، في مدينة دوما في ريف دمشق، التي تمر أمام أعيننا منذ عدة أيام، وقبلها المجازر المتنقلة بين المدن والقرى والأحياء على كامل التراب السوري، التي يرتكبها نظام بشار الأسد، وبينها عودة حمزة الخطيب من صف القراءة إلى حضن أمه، وحضن التراب مقطع الأعضاء، وخروج الرضيع بلال فرزات الديلاتي من تحت أنقاض البيوت التي سقطت فوق رؤوس قاطنيها في دوما، والحصار المستمر لمخيم اللاجئين الفلسطينيين في اليرموك، إلى الشروع بمراجعة جدية لقناعاتنا والتزاماتنا، ليس في ما يتعلق بحاضرنا فقط، بل بماضينا القريب أيضا، من منطلق إنساني وأخلاقي بعيد من العصبيات القومية والمذهبية والسياسية، لعلنا بذلك نتمكن من أن نتعاطى بطريقة أكثر واقعية مع إيران الثورة في وجداننا، وإيران التي انقلبت على مبادئها وانقلبت علينا في الواقع.

يقال إن الفرد لا يمكن أن يسقط، وإن تعثر، حين يلزم نفسه بموقف أخلاقي، وقد تسقط الأنظمة إن لم تدافع عن مصالحها، أو حين تبالغ في الدفاع عنها. والدول مصالح وليست مؤسسات خيرية أو قيما أخلاقية، لذلك فهي، أي الدول أو الأنظمة، في خضم تصديها لا تحتاج إلى مسوغات أخلاقية كي تحمي نظام مصالحها. كما أنها حين تستشعر العظمة نتيجة تراكم قدراتها، أو ضعف خصومها، فإنها ترفع تفوقها إلى مستوى الأيديولوجيا، وتحولها إلى رأس حربة في خدمة مشاريعها.

وبناء عليه، لم توفر إيران الثورة ولا إيران الدولة، كل ما تملكه من أدوات من أجل الوصول إلى مبتغاها، أي إثبات تفوقها. وكنا نحن العرب الفرصة التى سهلت لها مهمتها. فقد أمنت لها مغامرة صدام حسين، شد عصبيتها الوطنية وتماسكها القومي والمذهبي، في مرحلة انتقالية كانت تهدد وحدتها، ثم أهداها العرب عندما أهملوا قضيتهم المركزية فلسطين، ورقة اليانصيب الرابحة، التي عوضتها خسائرها السياسية جراء حربها مع العراق، وسمح لها ضعف الاندماج بين المكونات العربية استخدام المسألة الشيعية للتدخل في الشؤون الداخلية للعديد من الدول العربية.

لكن ثورة الشعب السوري عرّت كل خبايا طهران، ووضعتها وجها لوجه في مواجهة مع الشعوب العربية قبل أنظمتها، فثورة المستضعفين على المستكبرين تستضعف الآن المواطنين في سوريا واليمن والعراق ولبنان وتستكبر عليهم، وتقضي بقوة السلاح، على مطالبهم بالعيش بكرامة وحرية، وبحرسها الذي انشأته لحراسة ثورتها من شرور الأنظمة المعادية لها، تنتهك حدود عدد من الأوطان العربية وتستبيح أرضها وشعبها، كأن لا حق للشعوب العربية بالثورة ونعمة الحرية، إلا بما أمرت وما اكتسبت وما سوف تكتسب.

إيران بعد 36 عاما على ثورتها ضد الاستبداد، ورثت استبدادا فاق ما عانته، وهي حتى الآن لا تسمح للعراقيين الشيعة أن يبنوا دولتهم الوطنية، رغم سقوط صدام حسين، عدوها، مستعينة بالميليشيات التي صنعتها على الدولة التي أجهضتها، واختزلت سوريا ببشار الأسد وربما المنطقة كلها، فاستباح بلاده وشعبه، وأحرق ما حوله بتغطية ومباركة كاملة منها، وصلت طهران إلى اليمن أيضا، فمزقت ما تبقى من النسيج الاجتماعي اليمني الجاهز للإنفجار والتشظي، أما في لبنان، رغم دورها الايجابي بدعم المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي، لكن الشرح يطول، من السلاح غير الشرعي الذي يقف عقبة أمام عملية إعادة البناء والتفاهم الوطني، إلى جرّ شبان الطائفة الشيعية إلى المحرقة السورية، إلى تكريس أنماط مذهبية ومفاهيم اجتماعية وتجارب سياسية غريبة عن مجتمعنا، ولم تسلم فلسطين بمكوناتها السياسية من النفوذ الإيراني، فالانقسام الذي غذته بين «فتح« و«حماس« ما زال ناميّا، وهي تتسلل خلسة دون أن تثير ضجة إلى ليبيا والسودان.

بعد اكثر من ثلاثة عقود على الثورة، كان الرجاء ان يصل جنودها وحراسها الى المستوطنات الاسرائيلية في الجولان والجليل، وليس الى حلب ودرعا وحمص، وان يكونوا على ابواب القدس لا على ابواب واشنطن استعداداً للمصالحة معها، فواشنطن لم تتغير لكن طهران هي التي تغيرت، وربما كان هذا ما تخفيه منذ البداية ونحن تأخرنا في اكتشافه.

منذ اكثر من اربعة عقود تقريبا دخل الزعفران ضمن التوابل التي تستخدمها والدتي في مائدتها، اي منذ دخول رجال الثورة الايرانية منزلنا، فكان طعمه حلوا ككلامهم، ولكنه صار مراً كأفعالهم.

وبين الذاكرة والحاضر تبقى ايران جارا ثابتا، ننتظر حسن افعالها ونواياها، لان ما يجمعها مع جوارها اكثر مما يفرقها، اذا غير بعض ممن في النظام مما في انفسهم و يقول تعالى « لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم».

(المستقبل)

السابق
غسان مطر في ذمة الله
التالي
دارين حمزة: مُتحرّرة بالحلال