مابين جبل عامل وسوريا (10/9)

جزيرة ارواد

وفي اليوم الثاني ودّعنا هذا الشيخ الكريم وأصحبنا بولده يونس أفندي إلى طرطوس ومنها ذهبنا في قارب إلى جزيرة ارواد المقابلة لطرطوس والمسافة ساعة فأنسنا بتلك الجزيرة اللطيفة القائمة بوسط البحر وأهلها يحبون الغريب وكلهم مسلمون يشتغلون بالملاحة وأكثر أوقاتهم في الأسفار ومع ذلك فيتزوج الواحد منهم غالباً أكثر من امرأة وقد يتزوج أربع نساء وتجولنا في هذه الجزيرة وزرنا قلعتها التي ليس بها الآن سوى بعض الحامية الفرنسية والوطنية وكانت في زمن الأتراك منفى وقد استعملها الفرنسيون أيضاً لهذا الغرض فقد نفوا إليها الدكتور عبد الرحمان شهبندر الزعيم الوطني الدمشقي ورفقاءه.

وقد رأينا بعضهم كتب اسمه على بعض الجدران وبعد مكث مدة قليلة في الجزيرة عدنا إلى طرطوس ومنها أقلتنا السيارة إلى بانياس.

قمنا من طرطوس إلى بانياس عصر الاثنين فوصلناها بمدة ساعة وشاهدنا في طريقنا قلعة المرقب قائمة على نشز من الأرض (كأنها علم في رأسه نار) والظاهر من مرآها أنها من أعظم قلاع سورية منعة واتقاناً وقد أردنا زيارتها فلم يشر علينا بعضهم بذلك لأنها كانت مأوى الأشقياء والثوار وعلى مقربة منها على شاطئ البحر صخرة عليها صورة حربة يعتقد العلويون أن الإمام علياً ضرب بها إبليس لكنه نزل في البحر فأصابت الحربة هذا الصخر وبقيت ماثلة عليه ولم ندر متى جاء الإمام إلى هذه البلاد وما أكثر الخرافات التي تحجب الحقائق عن أبصار المغفلين.

بانياس

وعلى مقربة من هذه القلعة بلدة المرقب وهي بلدة كبيرة سكانها من المسلمين السُنِّيين وكذلك بانياس التي وصلناها وجلسنا هنيهة على قهوة هناك جعلت على شاطئ النهر ونظراً لغزارة مياهها فإن بها كثيراً من البساتين التي يغرس بها أنواع الفواكه لا سيما الليمون وبانياس أجمل بلدة راقتنا مناظرها في البلدان التي مررنا عليها في بلاد العلويين وقد بتنا عند قاضي العلويين بها الشيخ محسن العلي وشاهدنا قَيِّمها علي بك الكنج وهو من سراة العلويين شاب دمث الأخلاق وألفينا بها الشيخ أحمد حبيب مفتي العلويين صديقنا القديم وهو من خيرة من شاهدناهم من شيوخهم وقد رأيناه هو والقاضي يحلقون لحاهم مع أن اللحية تصحب العمامة غالباً وبات معنا المفتي تلك الليلة ولم يفارقنا في اليوم التالي. وكذلك كان شأن نوفل أفندي الياس غانم الشاب الوطني الشاعر وهو من تلامذة مدرسة الحقوق العربية الدمشقية واحضروا لنا الخيول فذهبنا معاً إلى قرية بلغونس والمسافة أكثر من ساعة وبلغونس قرية صغيرة بنى بها المفتي داراً حسنة وقد قضينا السهرة في البحث بالتناسخ لأنه تبين لنا أن الإخوان العلويين يعتقدون بتناسخ الأرواح ويؤِّولون بعض الآيات القرنية تأويلاً يطابق عقيدتهم هذه وهم مستمسكون بها وربما كتبنا مقالة في هذه العقيدة (التناسخ) يكون بها مقنع لمن ألقى السمع وهو شهيد ولقد لقينا من كرم ضيافة الشيخ الصديق ما أنطق ألسنتنا بشكره.

لثْم الأيادي

وقد رأينا من تعظيم العلويين لشيوخهم وأهل بيوتاتهم الشيء الكثير حتى أنَّا كنا نتناول الفطور في بيت قاضي العلويين ببانياس فجاء رجل مسن قد أربى على الثمانين وهجم على يد القاضي والمفتي يوسعهما تقبيلاً ولثما ولم تجدِ إشارتهما له بالانتظار للفراغ من الطعام وقد رأينا أن نساءهن لا يتسترن أبداً وهن يقبلن أيادي الشيوخ وغيرهم وحدِّث هناك عن لثم الأيادي ولا حرج فالشيخ سواء كان عالماً أو جاهلاً تقبل يده وكذلك ابن الشيخ ولو ألفيت علوية تسرح شعرها مثلاً فلا تذعر ولا تغطي شعرها منك لكنهن إذا خرجن خارج بيوتهم يتسترن على نحو فلاحات قرى جبل عامل وكذلك نساء شيوخهم ووجهائهم لا يظهرن على الغريب ومن حسناتهن أنه ليس منهن من دخلت بيوت الفحشاء.

عدنا إلى بانياس وقد هزت رفيقانا نشوة الصبا فأخذا يجريان في حلبة الميدان وجرينا معهما فلم تكن صفقتنا خاسرة.

جبلة

وبعد الانتظار قليلاً في بانياس أقلتنا سيارة إلى جبلة التي بلغناها بساعة ونصف وزرنا مقام السلطان إبراهيم بن أدهم وهو مقا فسيح جميل الهندسة ولهذا المقام أوقاف كثيرة لكن اختلس أكثرها بعض وجهاء العلويين بواسطة تقربه من الحكومة وقد شاهدنا صدفة بشير أفندي علي أديب وولده جمال أفندي وهوشاب وطني محبوب فدعوانا لتناول الغداء على مائدتهم الأنيقة ولهم دار فخمة من أحسن دور جبلة. وجبلة بلدة متقنة لطيفة ذات موارد زراعية لا يستهان بها لا سيما من التنباك وقد بدأوا يزرعون القطن ويرون له نتائج حسنة، بيد أن الحكومة لم تجعل طريق اللاذقية العامة تمر من بلدتهم لأنهم أظهروا معاكسة لها ووطنية يشكرون عليها. ورأينا هناك رجلاً أديباً يتشيع ويجاهر بسبّ معاوية مما أدى إلى نفيه لعكا في عهد عبد الحميد وقد تبرأ أبوه منه وأصبح فقيراً مع أن أباه من أهل الثراء وهو ما زال ثابتاً في عقيدته، سائراً على نهجه وطريقته وفي جبلة قلعة متداعية كانت مسرحاً رومانياً.

ما لبثنا طويلاً في جبلة حتى أقلتنا سيارة إلى سلاطه التي تبعد في السيارة زهاء ساعة عن جبلة والسيارة تصل إلى عين ماء لطيفة هناك. وتذهب إلى القرداحة ومنها يصعد المرء ماشياً إلى سلاطه في حرجة جميلة ولما وصلنا إلى قرب القرية ألفينا الشيخ سليمان أحمد والشيخ علي كامل في انتظارنا فحللنا في دار الشيخ على الرحب والسعة.

فضل الشيخ سليمان الأحمد على العرفان

وهذا الأستاذ الجليل الشيخ سليمان أحمد هو الذي كان الواسطة الفعالة لانتشار العرفان في بلاد العلويين وله على العرفان فضل لا يجحد وقد زارنا في صيداء قبل الحرب هو والمرحوم الشيخ إبراهيم عبد اللطيف فألفينا من سعة اطلاعهما وفضلهما ما أعجبنا به. ولهذا الشيخ الفضل الكبير في تنوير بعض العلويين وتخفيف غلوهم وكان عُيِّن رئيساً لمحكمة استئناف العلويين الشرعية واستحضر للقضاة كتباً من كتب الشيعة ليفتوا بموجبها لكنه ما لبث أن استعفى فأهمل القضاة ذلك وأكثرهم يفتي بحسب ما يتصل إليه علمه ولو كانوا كلهم من العلماء لهان الخطب. على أنه ليس بيدهم سوى الطلاق والنكاح. وسلاطه مزرعة صغيرة بنى له أهل تلك الجهات بها بيتاً بسيطاً فانتقل إليها وكان يقيم قبلاً في ديفة التابعة لصهيون التي استجلب ماء اللاذقية منها والشيخ اليوم ملازم العزلة تراه يقوم آخر الليل فيتوضأ ويقرأ القرآن إلى الصباح فيصلي ويجلس لاستقبال زائريه أو لمطالعة الكتب والصحف وهو حريص جداً على تعليم أولاده بنفسه فقد رأيت وسمعت نظم ولده محمد المعروف ببدوي الجبل وهو من الطبقة الأولى وسمعت نظم ابنته (فاطمة) المعروفة بفتاة غسان وهي لم يتجاوز سنها 17 سنة ومع ذلك فشِعْرها مسبوك جيِّد وحديثها طليّ. وله ابنة صغيرة بنت عشر سنين سمعناها تقرأ في ديوان الرضي بلهجة حسنة وعربية متينة. وله ولد اسمه علي وضعه في المدرسة العلوية بالشام لذلك تراه مواظباً على الصلاة هو وأحمد بن الشيخ علي كامل وهو اليوم تلميذ المدرسة الوطنية التي أنشئت هذه السنة في طرطوس وعين لها معلّماً للعربية الشيخ عبد الكريم الخير من أشهر أدباء العلويين واطلاهم ديباجة في إنشائه وقد زارنا مساء وصولنا لسلاطة آل الخير الكرام وهم مقيمون في القرداحة.

(شؤون جنوبية)

السابق
معارك في برج البراجنة بين آل جعفر والبلدية
التالي
بالصور: إشتباك على باصات بين آل جعفر وحزب الله في البرج