عندما كان رجال الدين في جبل عامل إصلاحيين

باختيارها عنوان “أحمد عارف الزين 1884-1960 رائد إصلاحي من جبل عامل”، أبرزت رغدا نحاس الزين، في السيرة التي كتبتها عن حياة جدها، وأرَّخت فيها لفكره، الخصوصية المحلية للبيئة التي نشأت منها هذه الشخصية النهضوية.

الفكر النهضوي وما اكتنفه من دعوة إلى نشر العلم وتحكيم العقل وتطوير المجتمع تفاعل أيضاً في البيئات الريفية الفقيرة في ما هو اليوم قسم من لبنان الجنوبي. وقد جاء كتاب نحاس الزين ليلقي الضوء على هذا الجانب من تراثنا الفكري وليعود بنا إلى المعطيات التاريخية لإشكاليات محورية لا تزال مطروحة إلى يومنا هذا وأبرزها إشكالية علاقة الإسلام بالحداثة.
فقد شهدت بدايات القرن الماضي الظواهر الأولى لتفتح علامات النهضة في جبل عامل. وهذه المنطقة التي اشتهرت تاريخياً بعلمائها الدينيين الشيعة وعانت من الاثار الكارثية للصراع الإيراني- العثماني، كانت قد تعرضت في العام 1780 لهجمة شرسة من جيوش والي عكا أحمد باشا الملقب بالجزار الذي أمر بحرق مخطوطات ومحفوظات مكتباتها، ولم تشيَّد فيها المدارس إلا بعد النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ كانت “بواكير اليقظة الحديثة تقوم في جبل عامل كجزء لا يتجزأ من يقظة المنطقة العربية”، كما تقول الكاتبة.
ولد الشيخ أحمد عارف الزين ونشأ في الحقبة التي بدأ فيها جبل عامل يشهد تأسيس المدارس على يد بعض أهل الرأي، وفي هذه الحقبة أيضاً بدأت تنتشر الصحافة العربية إنطلاقاً من مصر. لكن الحدث الأهم في هذه المرحلة كان الإعلان عن الدستور العثماني في 24 تموز 1908 وهو الحدث الذي يصفه الزين في كتاباته بـ”الإنقلاب” والذي تبعته “فورة” في تأسيس الصحف والمجلات في الأرجاء العثمانية وخاصة في المناطق العربية. في هذا الخضم أسس الزين مجلة “العرفان” في 5 شباط من العام 1909 بعد أن كان مارس الكتابة في بعض الصحف البيروتية، وكانت هذه أولى المجلات الصادرة في جبل عامل.
لم يتطلع التحرك النهضوي بداية، إلى تغيير في السلطة وإدارة الحكم إذ كان يرمي أساساً إلى تحقيق “الرقي” فأمام التقدم السريع الذي أحرزته الدول الأوروبية في مجالات العلم والتقنيات الصناعية ووسائل النقل والتواصل خلال القرن التاسع عشر، كان لا بد من أن تعلو مطالبة النخب في المجتمعات الشرقية بتطوير طرق العيش والتعامل كي تصبح مؤاتية لمواكبة العلوم والإبتكارات الآتية من الغرب. من هنا كان اسم “جمعية الاتحاد والترقي” التي استلمت السلطة في الآستانة وعزلت السلطان عبد الحميد. في حينه كان الشيخ الزين معجباً بالجمعية وحركتها وكانت آماله معقودة على نجاحها في قيادة مكونات الشعوب العثمانية نحو التطور المنشود بتحقيق العدالة والمساواة. ولكن سرعان ما تبددت هذه الآمال بعد أن آثر النظام الجديد تغليب المقاربة القومية التركية في سياساته واتباع الأساليب السلطوية للنظام البائد في إدارة الحكم. لذا نرى الشيخ الزين يجاهر في العام 1912 بانتقاداته لسياسات الاتحاديين واعمالهم ويشارك في عدد من الجمعيات العربية السرية المناوئة للأتراك ومنها جمعية الثورة العربية”، والتي أعدم الأتراك عدداً من رجالاتها شنقاً.
بعد الحقبة العثمانية، ظلّ الشيخ أحمد عارف الزين طوال عهد الإنتداب الفرنسي على لبنان وحتى بعد الاستقلال ونشوء الدولة اللبنانية، متمسكاً بفكرة الثورة العربية ويدعو إلى الوحدة السورية التي اعتبرها مقدمة للوحدة العربية. كذلك يتضح من كتاباته في مجلة “العرفان” والتي استمرت بالصدور (مع بعض التقطع) من العام 1909 لغاية العام 1960 والتي تستعرض الكاتبة أبرز المواضيع التي تتناولها باسهاب ودقة، أنه ظل متمسكاً بأفكار الإصلاح الاجتماعي والديني والسياسي والثقافي.

 روح العصر وروح الدين
هذه الأفكار “روح العصر” كانت في أساس “روح” العصر وكان رواد عصر النهضة، كما تقول الكاتبة “يستكشفون معارف العصر الأجنبية بالقدر الذي يعيدون فيه استكشاف التراث الإسلامي”، فقد تأثر الشيخ أحمد عارف الزين بشكل خاص بفكر محمد عبده، وعلى غراره، دأب في “العرفان” كما في كتاباته الأخرى على التوفيق بين الدين والفكر الإصلاحي المعاصر. هذا التوفيق تمثل أولاً بالحرص على التعريف بحقيقة عقيدة الشيعة الإمامية ورد المغالطات التي نسبتها إليها بعض الكتابات في العشرينات من القرن الماضي في خضم الصراع السياسي الهاشمي –السعودي. هكذا شدّد الشيخ الزين على وجوب أخذ أقوال كل طائفة من كتبها كما أكد، في كتابه “مختصر تاريخ الشيعة”، أنه “ليس للشيعة في غيبة ائمتهم مبادىء سياسية خاصة، وإنما هم كسائر المسلمين يفضلون كل من يقيم قسطاساً من العدل ويمحو معالم الظلم ويطلق لهم الحرية في دينهم ويخوّلهم جميع حقوقهم”.
ودعا الزين كما الرواد الآخرون في عصر النهضة، للعودة إلى روح الدين الصحيح وإلى التآلف بين معتنقي جميع الأديان والمذاهب كما دعا إلى توحيد الفرق الإسلامية، وعلى غرار محمد عبده ورشيد رضا، دعا الشيخ أحمد عارف الزين إلى القيام بمقارنة علمية بين المذاهب السنية الأربعة وبإضافة المذهب الجعفري إليها بغية التوصل إلى مذهب واحد من طريق “عقد مؤتمر عام يضم كبار علماء الإسلام من جميع الفرق” وقد شجع قيام “دار التقارب الإسلامي” التي تكونت في مصر في الأربعينات من القرن الماضي وضمت علماء من السنة والإماميين والزيديين.
إلى ذلك أراد الشيخ أحمد الزين أن يكون مصلحاً في الطائفة الشيعية نفسها إذ استنكر منذ عشرينات القرن الماضي عادة اللطم وإيذاء النفس في عاشوراء واعتبرها “عادة خارجة عن الدين الإسلامي، جلبها بعض الأعجام إلى الشيعة في النبطية” كما تذكر الكاتبة.
أراد الشيخ أحمد الزين أيضاً التوفيق بين المفاهيم الحديثة للحرية والديموقراطية ومبادىء الإسلام واعتبر أن الشورى من “أعظم أركان الإسلام” معتبراً أن الحكم الشوروي هو السبيل إلى تحقيق العدالة وعدم الوقوع تحت ظلم الإستبداد الذي لم يسلم منه الشرق “إلا في أزمنة محدودة”، حتى توصلت سياسة الاستبداد، كما يقول، إلى “نزع ملكة الاجتهاد من النفوس”. وفي تحليل يذكرّنا بما آلت إليه أوضاع مجتمعات شرقنا البائس اليوم، يرى الزين أن معنى الظلم أعم من معنى “جور سلطان برعيته” إذ يشمل “ظلم عميد القوم لعشيرته ورب البيت لعائلته”و”إذا سرى الظلم في جسم الحكومة والحكام، تمتد عداوة المهلكة إلى جثمان الشعب”.
وإلى ذلك، لم يرَ الشيخ أحمد الزين تعارضاً بين الجامعة الإسلامية والقومية العربية. وقد تناول الموضوع في نصوص عدة توردها الكاتبة وقد اعتمد في ذلك موقفاً يمكن وصفه بأنه موقف علمي أكثر منه أيديولوجياً، فاعتبر أنه بعد التجربة السلبية مع الأتراك والتأثر بالدول الغربية، واتجاه الأخيرة نحو القوميات وتركها الدين والمذاهب جانباً، عدل العرب عن الجامعة الإسلامية إلى الوحدة العربية. لكن الشيخ الذي أثنى على مقولة الملك حسين عاهل الحجاز الشهيرة “نحن عرب قبل أن نكون مسلمين”، ظل من دعاة “الوحدة الإسلامية التي اعتبرها “أهم وأنفع إلاّ أنها صعبة المرام بعيدة المرمى” وكان لا يختلف في ذلك مع الكثيرين من أبناء جيله في اعتبار القومية العربية والفكرة الإسلامية متلازمتين، وغير متناقضين، مع انه أظهر أحياناً حسب ما رأته الكاتبة نزعة إلى تحبيذ “ضبط العلاقة بين الدين والسياسة على مستوى الدولة لا على مستوى المجتمع”، بحيث تكون الدولة للجميع وفقاً لما قاله محمد عبده: “ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة”.

(النهار)

السابق
«مونديال 2022»: لا تعويضات للأندية الأوروبية
التالي
«داعش» يخطف 220 مسيحياً آشورياً من قرى في شمال سوريا