دفتر الدكنجي.. أسرار الأسرة اللبنانية

منذ سنوات كانت الاحصاءات تشير إلى ارتفاع في نسبة اللبنانيين الذين أصبحوا تحت خط الفقر… ولكن الواقع هذه الأيام يشير إلى أن أكثر اللبنانيين باتوا تحت خط الصفر.

شعب تحكمه دولة هزيلة غارقة في نعيم حكامها الذين لا يعنيهم من هذا الوطن سوى مكاسبهم الخاصة أو طائفتهم أو حزبهم بأحسن الأحوال.

المواطن، هذا المغيب الغائب إلى حين حاجته في تظاهرة أو صندوق انتخاب، بات أعجز من أن يجد حلولاً لمشاكله المتراكمة. فالغلاء الذي يتصاعد كل يوم بات أكبر من إمكاناته بمرات، ناهيك عن حالة البطالة التي تضاعفت في الآونة الأخيرة مرات ومرات بسبب اليد العاملة الغريبة.
الحل الأقرب للتوفيق بين متطلبات بيته وعائلته يقيه من جوع، او شراء دواء، استعان بالدفتر… فكان خشبة خلاصه شراء حاجاته بالدين، وعلى الدفتر، رغم ما لهذه الوسيلة من ردود فعل معنوية وإنسانية، بحيث أنك لا تستطيع أن تقف أمام صاحب الدكان وعينك بعينه، بل عينك غالباً تتفحص أرضية الدكان.!
إنها المعادلة الذهبية على الطريقة اللبنانية: “الغني بيفتح دفتر بالبنك والفقير بيفتح دفتر بالدكان”..!!
وأفضل وسيلة لقراءة واضحة لما يعانيه اللبناني هي بنظرة لدفتر “الدكنجي” في حي شعبي… وحده القادر على عرض الصورة الحقيقية لما آلت إليه حال الوطن والمواطن معاً.
أبو جميل الدكنجي، تحتوي دكانه الصغيرة على كمية كبيرة من المواد الغذائية مكدسة عشوائياً فوق بعضها البعض… وتزدحم جوانب دكانه الخارجية ببعض الفواكه والخضار، وعلى بابها أنواع مختلفة من البضائع المعلقة.
قال أبو جميل وهو يحشر نفسه بين أكوام بضاعته، ليتناول ربطة خبز لأحد الزبائن، فاتحاً دفتره المهلهل بحثاً عن مكان يتسع ليسجل ربطة الخبز بجانب اسم الزبون:
“الله يعين الفقير وعيشتو”…والله هالدفتر ما بقى يتحمل وجع الناس… قدرة الناس تقلصت من شراء ربطة خبز كاملة إلى شراء عدة أرغفة بالدين… “صار بدفتري فرن كامل من كتر ربطات الخبز المسجلة فيه”.
“الله يرحم هاك الأيام، كانت الناس بمدخول قليل يقتلو القلّة.. وبفضل الغلا والبطالة والإيد العاملة الغريبة راح القليل وعاشت القلّة”.
أنا بهالدكان من أربعين سنة، بعرف جميع السكان، الكبير والصغير والمقمط بالسرير، علاقتي بهالناس ما عادت بياع وزبون، صارت علاقة أهل.
أخذ يقلب صفحات الدفتر المتخم بالأسماء قائلاً: “بهالدفتر في العسكري، وموظف الدولة والشركة، والعامل، والعاطل عن العمل… “الموظف بالنسبة لغيروا من اللي بيشتغلوا باليومية يوم شغل وعشرة لا، عايش بنعمة، على الاقل بيعرف كل آخر شهر رح يقبض معاشوا، هالمعاش اللي عم يزغروبتتبخر قيمتوا الشرائية شهر بعد شهر، يذهب بين إيجار سكن، وأقساط مدارس، وفواتير كهرباء وهاتف، وصهاريج ماء، وضرائب، وقروض، وغيرها من المستحقات التي تحتاج إلى راتب آخر ليغطيها… فكيف سيعيش كل الشهر؟..لذلك يضطر إلى فتح حساب عند الدكنجي، والخضرجي، واللحام، والصيدلي ومحل الثياب.
اعطيهم بالدين “اعرف البير وغطاه” أصبر عليهم، رغم حسابات بعضهم الكبيرة، بعض الديون مات أصحابها، أصبحت إرثاً لأولادهم، الفقير لا يورث سوى الديون…ظروف الناس قاسية “اللي ما بيشعر بالناس مش من الناس…اللي عندو عيلة وقاعد بلا شغل شو بيعمل؟…في شباب عاطلة عن العمل، في أرامل وأيتام، في عجزة ما إلهن حدا، في مرضى بلا دوا.
تابع كلامه بحزن: احوال الناس المعيشية انقلبت رأسا على عقب، كانوا يشترون الضروريات والكماليات، ويدفعون نقداً، الآن تقلص حجم ونوع مشترياتهم، صارت محصورة بالمواد الضرورية جداً وبالدين… حتى البيض اصبحوا يشترونه بالحبة والحبتين… كنت أضع بضاعة بابا اول، لم يعد يطلبها احد، فاستبدلتها بأبواب اخرى غير معروفة… مشيراً الى اكياس كبيرة في زاوية الدكان: هذه مثلا مساحيق غسيل ابيعها “فلت” بألف ليرة تغسل العائلة ثيابها، ربما تكون رديئة الصنع ولكنها تتناسب مع قدرة الفقراء على الشراء.
أكثر ما يؤلمني منظر الأطفال، حين يأتي طفل بيده 250 ليرة، يحتار ماذا يشتري بها… يأخذ قطعة من السكاكر الرديئة وعيناه معلقتان بقطع أخرى أغلى ثمنا، الطفل بطبعه يعشق الشراء… أولاد أولئك الذين امتصوا دم الناس، يملؤون بطونهم بأفخر أنواع السكاكر والشوكولا، وأولادنا يلتهمونها بأعينهم أمام الواجهات.
توقف أبو جميل عن استرساله في الحديث بعد دخول زبون غاضب طلب عدة شمعات، خرج وهو يلعن البلد والزعماء والحياة…قائلا: “على أيام جدودنا كان في كهربا، ونحنا بهالزمن بعدنا على ضو الشمعة… المهم هني عايشين ببحبوحة وعندهم كل شي… مش ضروري ولادنا يدرسوا طالما ما معنا ندفع لعصابات الزعماء اشتراك مولد”.
أتبعه الدكنجي أبو جميل بسيل شتائم من “كعب الدست” لمن أوصلوا الناس إلى هذه الحالة المزرية… متابعاً بغضب:
لو أن بعض من يدَّعون عمل الخير ومساعدة المحتاجين يفتحون دفاتر الدين، هنا لا توجد قروض لشقق أو سيارات، هنا صفحات مليئة بما سد جوع بعض الفقراء، ولا قدرة لهم على سداده. سيجد هؤلاء ضالتهم المنشودة في عمل إنساني، حين يزيلون صفحة ثقيلة عن كاهل إنسان يمضغ مرارة الهموم مع طعامه المؤجل الثمن، الذي ينتظر المزيد من الدفاتر.
دفتر الدكنجي، حكايات وحكايات من البؤس والمعاناة، صورة عن وطن ليس بوطن…ولا نزال نتغنى بديمقراطيته وأمجاده، مسؤولين لا يشبعون، دولة غارقة بالدين، ومواطن مديون حتى الرغيف الاخير.

(البلد)

السابق
زين الاتات ضحية ام مزور؟
التالي
«داعش» يُكمل تدمير التاريخ: الأشوريون بعد الإيزيديين!