يوميات معتقل 3: عن جعفر البطل.. حتى داخل المعتقل

في الجزء الثالث من يوميات معتقل يتذكر محمد فرحات عذابات الليل والنهار داخل المعتقل، وجعفر المبادر في رمي الحجارة على ملالات وجنود الإحتلال والتي تحوّلت إلى إنتفاضة الحجارة الشهيرة، ورفاق المعتقل الذين أضحوا شهداء في صفوف جبهة المقامة الوطنية أثناء عمليات تحرير الجنوب.

داخل المعتقل جميع الخيِم منزوعة الجوانب، كلّ خيمة كانت عبارة عن مجرد سقف كاكي، ليتسنّى لهم مراقبة كل شيء يحدث في الداخل. عند الغروب كان يجب على الجميع الخلود إلى النوم، أو أقلّه الانبطاح، إلاّ أنّ الضوء الأصفر المسلّط علينا، والضوء العملاق ذو الأشعة الزرقاء المركّز على إحدى الشاحنات في المقابل جعلنا لا نعرف حتى لليل طعمه.

كانت الخيمة الواحدة التي لا تسع لأكثر من خمسة أشخاص، ينام فيها 25 معتقلاً، فكانت الأقدام تطأ الرؤوس والأنفاس تمتزج بالأنفاس. الحذاء كان وسادتنا والغطاء كان كذلك فراشنا، كل قدم معتقل تخرج عن حدود الخيمة كانت هدفاً لرصاص الحرّاس، كل رأس يعلو عن مستوى الأرض خلال فترة النوم سيضرب.

قسّموا موتنا إلى نصفين، الأوّل في النهار، عند الجلوس  لساعات مع وضع اليدين فوق الرأس والنظر إلى الأسفل، والثاني في الليل عند الإنبطاح بلا حراك داخل الخيمة، كنّا أحياناً نتحاور بلغة الخرسان!

تقاسمتُ المساحة المخصّصة لنا داخل الخيمة رقم 20 في معسكر رقم 13 مع أبناء قريتي: علي فرحات ومحمد الشامي وفوزي درويش وجعفر ياسين، أمّا باقي الشركاء كانوا من مخيّم برج الشمالي وصيدا.

كانت خيمتنا تقع مباشرةً على زاوية المعسكر قرب خراطيم المياه العطشى، وشبه ملتصقة بالحفرة الصحية التي تعلوها قطعة من الخشب نشرت من وسطها من عدة أمكنة، لتشكّل مكاناً للقرفصاء  لقضاء حاجتهم. تلك الحفرة كانت مخصّصة لخمسمائة أسير، كانوا يجلسون على الحفرة أمام أعيننا لقضاء حاجتهم، ويتبادلون الأحاديث معنا بشكل عادي.

في البداية كنّا نستعمل قطعاً صغيرة من الحجارة للتنظيف، أمّا بعد أن تحوّلت الحجارة الصغيرة إلى  «عملة نادرة» فلم تعد لنا وسيلة سوى ترك الأمور كما هي.

أول من أحسن إستخدام الحجارة الأكبر حجماً كان جعفر ياسين، جعفر الجميل الأنيق، صديق الطفولة والشباب، كان من المنتفضين الأول في معتقل أنصار في أيلول 1982، رمى الكثير من الحجارة على ملالات وجنود الإحتلال الإسرائيلي، كان ذلك في انتفاضة الحجارة الشهيرة، حيث بدأ الآلاف منّا برمي الحجارة بإتجاه الجنود والملالات والأبراج، وفي هذه الإنتفاضة جرحة أكثر من عشرين معتقلاً بالرصاص.

بعد أيام قليلة قتل أحد الجنود في المعسكر المجاور وبدم بارد أربعة من الأسرى قرب وعاء الشاي الكبير، كانوا بإنتظار تعبئة أكوابهم عندما أطلق أحد الجنود عليهم النار من فوق ملالته.

كان سروال جعفر قد تمزّق، وبحكم مجاورة خيمتنا للأسلاك الشائكة على زاوية المعسكر، فقد بدأ بمحاولة إنتزاع قطعة حديدية قصيرة من تلك الأسلاك ليصنع منها إبرة خياطة، نجح جعفر ببسط يده بإتجاه الأسلاك وبدأ يلوي وبحذر شديد تلك القطعة، إلى أن إستطاع قطعها، ومن ثم قام بسحب خيط من زاوية الخيمة وبدأ بإصلاح سرواله .

جعفر كان شديد الذكاء، هو إبن بلدة كفرتبنيت ولكنّه إنتقل مع عائلته إلى جرجوع في أواخر السبعينيات. كان أخاً ورفيقاً مميزاً.

بعد خروجه من المعتقل شارك في تحرير الجنوب، عُرف بين أوساط شباب جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية من الذين قاموا بمئات العمليات المميزة، لوّع الاحتلال وعملائه من صيدا وصولاً إلى كل الجنوب، هو من الأسماء الكبيرة في عالم المقاومين، عملياته كانت نوعية وشديدة التأثير، لا مجال عندي الآن ولا حقّ لي أن أروي القليل الذي أعرفه عنه، ولكنّه وبلا شك من الأبطال الذين يملكون الفضل في عملية التحرير.

مات جعفر في إحدى العمليات، كان معه حسن فقيه ( رفيق المعتقل أيضاً ) وحمزة حمزة. حسن ابن طلّوسة وحمزة ابن كفرمّان، إستشهدوا في عملية قرب منزل عائلة جعفر في كفرتبنيت ربيع عام 1985.

كل العالم صغير أمامك يا جعفر، من ذلك الجندي الذي أصبته بحجر في رأسه ليسقط على أرض المعتقل، إلى كلّ من لم يذرف دمعه حزناً عليك.

 

السابق
مخطّط لاغتيال بري ونوّاب من «المستقبل»
التالي
فلسطينيو أوروبا.. من المحنة إلى المنحة