العلاَّمة الأمين:المؤسسات الدينيّة مسؤولة عن إعادة النظر في بُناها

نظراً لما يتّصفُ به، الفِكر الإبداعيُّ الخلاّق، للمفكّر الإسلاميّ العلاَّمة السيِّد محمد حسن الأمين، هذا الفكر التجديديّ والتنويريّ الشموليّ المحاور المعرفيّة، والذي يمتاز بتحديد بوصلة مسار أمّتنا وتسديد إبرتها في الاتجاه الصحيح الهادف والواضح، كان لا بدّ لنا، وكما تعوّدنا دائماً، من الاستئناس بآراء ومواقف سماحته تجاه ما يُهدِّد عالمنا العربيّ والإسلامي، من أخطار جمّة، في مرحلة عصيبة، تُعَدُّ واحدةً من أعقد مراحلنا التاريخيّة على الإطلاق، من هنا كان هذا الحوار:

سماحة السيِّد، ما هي قراءتكم الخاصّة، لِما يُواجهها اليوم، عالمنا العربي والإسلامي، من أخطار داخليّة مرعبة، نابعة من موجات التطرّف المقيتة، والموسومة – زوراً وبهتاناً – بالتّطرّف الدِّيني الإسلامي، هي التي حوّلت حياتنا الحاليّة إلى فوضى عارمة على الصّعد كافّة؟

ما يشهده القِسم الأكبر من العالم العربي والإسلامي، هو ظاهرة تاريخية وحضاريّة سلبيّة، لجهة انعدام الرؤيا والمشروع الحضاري الإيجابيّ، الذي شكّل في مرحلة سابقة، هاجساً كبيراً للمفكّرين العرب والمسلمين من كل الاتجاهات. وعندما بدأ ما يُسمّى “الربيع العربي”، قبل سنوات قليلة، تفاءل الكثيرون ونحن منهم، أنّ هذه هي البداية التي سوف تفتح الطريق إلى مرحلة النهضة الجديدة التي تتطلّع إليها الأمّة وشعوبها، خصوصاً لجهة قيام أنظمة سياسية متجاوبة مع حاجات النهضة ومتطلباتها. إلا أنّ الاتجاه الذي اتخذه هذا “الربيع” بدأ يظهر، بصورة تدريجيّة، أن ما يجري بكل أسف، قد يبدو شكلاً من أشكال الثورة المضادّة لتطلّعاتنا باتجاه الانفتاح، والاستنارة والتطوّر، وهذا الاتجاه اتخذ بصورة مؤسفة صورة العودة إلى تاريخ سابق، ليس هو التاريخ الذي نعتز به، بل التاريخ الذي ينبغي أن نشخّصه بوصفه صورة سلبية عن صور تاريخنا الإسلامي، لأنه يمثّل المرحلة التي تراجعت فيها الرّوح الإسلاميّة المتألقة والمندفعة، باتجاه تكريس كرامة الإنسان والطامحة إلى أن تشكّل خلاصاً للإنسانية من عهود القهر والاستغلال والعبودية.

فإذا بالموجة التي تكتسح الساحة العربية والإسلامية، هي صورة من صور العودة إلى تاريخ الانحطاط، الذي بدأ منذ انهيار الدولة العبَّاسية ومرحلة ما بعد الغزو المغولي لبلاد المسلمين، متمثلة بالصورة التي نشهدها في التطرّف الذي وسم الحركات والأحزاب الإسلامية بأغلبها وجعلها تبرز وكأنها الصحوة الوحيدة لرؤية الأمة في تجديد ذاتها، الأمر الذي وضعنا مجدّداً أمام تحديات المواجهة، التي بدل أن تكون باتجاه التطوّر وفهم العالم، والاستفادة من منجزات العصر، وضعنا أمام مشروع صراع داخلي دموي جاهلي، لا يمكن أن نقدِّر المدى المؤسف الذي سوف يجعله مستمرّاً، خاصة وأن الاتجاهات الغربية ذات الجذور الاستعمارية في الغرب، باتت تُشجِّع – بصورة أو بأخرى– على هذا اللون من الصراع الداخلي لأهداف لا تختلف كثيراً عن الأهداف السابقة للاستعمار، تجاه الأمة الإسلامية وثرواتها وإمكانات نهوضها.

ما هو توصيفكم لهمومنا الفكريّة والثقافيّة للمرحلة الحاليّة، من خلال تقييمكم المعرفيّ لأوضاعنا الراهنة؟

ما زلتُ على يقين أن مشروع نهضة جديد لا بدّ أن يقوم على فكرة التجدّد الحضاري للعالم الإسلامي عامّة، وللعالم العربي خاصّة، وأن هذا المشروع لا يمكن أن يكون بعيداً عن العمل لتجديد الفكر الديني بدرجة أساسية، انطلاقاً من الإيمان بأن الأجيال الإسلامية المتأخرة لم تنجح بعد في تجديد الرؤيا الإسلامية على الصعيد الفكري كما على الصعيد الفقهيّ والاجتماعي، والاضطلاع بقراءة نصوص التراث قراءة نقدية تتجه إلى الاحتفاظ بالشعلة المستمرة في معطيات التراث، وتجاوز ما تبقّى من رمادٍ يمثل – في نظرنا – مظاهر الانحطاط السلبية في هذا الفكر، وهذا يعني أن النُّخبة الفكرية مسؤولة في هذه المرحلة بالذات، أن تطلق أكبر صورة ممكنة لرؤية إسلامية جديدة، كما أن مثل هذه النهضة تتطلّب شكلاً أعمق للحوار بين النخبة الفكرية الإسلامية والنُّخب الأخرى، وحتّى العلمانية منها، لإنجاز الأُسس والقواعد التي تشكّل منطلقاً لنهضة معاصرة مستفيدة من كل أشكال التنوّع والاختلاف الذي هو سمة من سمات الفكر المؤهّل لمواجهة التخلُّف وبناء قواعد لهذا التجدّد الحضاري – فكرياً وثقافياً -.

المرحلة العصيبة التي نعيشها هذه الأيام، والمتّصفة بالتّغييب المطلق للغة العقل، برأيكم كيف نُواكبها فكرياً وثقافياً وما إلى ذلك؟

أستطيع أن ألخّص الإجابة بالقول الذي أردّده دائماً، بأنّ الأمّة، بصورة عامة، هي بأمسّ الحاجة إلى إعادة الاعتبار للعقل، وما أقوله هنا، ليس صورة من صور التأثّر بتجربة الغرب، في تعزيز وتقديس العقل، بل أقوله بعد مراجعة طويلة وجادّة في نظرة الإسلام إلى الكائن الإنسانيّ بوصفه عقلاً قبل كل شيء. وقد عرف تاريخ الإسلام والجانب المضيء منه هذا الاقتران الحميم بين مراحل النهوض والتألق في تاريخنا الإسلامي، وبين المكانة المميزة للعقل ولاحترام معطياته. كما أنني ألاحظ أن مراحل الانحطاط في تاريخنا، كانت مقترنة بتغييب العقل. فما يحدث الآن، هو درجة مخيفة من درجات تغييب العقل، بل احتقاره، والتمسُّك بالغرائز وباستغلال قداسة الدِّين لحماية هذه الغرائز، ومعنى ذلك أننا كأمة، ولو بصورة متأخرة، مُطالبون بإعادة الاعتبار للعقل بوصفه العنصر الذي اكتسب الإنسانُ كرامته بسببه، وبوصفه، بعد كل التجارب التي شهدتها العصور الأخيرة في عالمنا، المعبر الوحيد نحو التطور والتجدد واحترام الكائن الإنساني. فإذا كانت أوروبا قد بدأت منذ أربعمائة عامٍ نهضتها الحضارية، مستندة إلى العقل، فإن الإيمان بالله وبالأديان لا يمنع المؤمنين والمتديّنيين من الأخذ بهذا النَّهج، بل سوف يشكّل الاقتران بين إعادة الاعتبار للعقل وبين الإيمان بقيم الأديان، عاملاً أكثر فاعلية في إنجاز الخروج من مراحل التخلّف، إلى ما سمّيته بـ”مرحلة التجدّد الحضاري” للمسلمين. وفي التفاصيل، فإنني أحمِّل، في هذه المرحلة المُعاشة، ما يسمّى بالنُّخب الدينية والسياسية طبعاً، مسؤولية المواقف الضعيفة، إن لم أقل المنعدمة في مواجهة هذا التطرّف الديني الذي يتّسع ويتفاقم ويكشف عن المآسي التي جلبها هذا التطرّف على المسلمين. وعليه فإن المؤسسات الدينية مسؤولة عن إعادة النظر في بُناها وتشكيلاتها وتوجّهاتها وإحداث التغيير المسؤول الذي يجعل هذه المؤسسات قادرة على التصدّي لهذه الحركات التي تصِمُ الإسلام بالعنف والإرهاب وتضعنا هدفاً سهلاً أمام الصهيونية أولاً وأمام أطماح بعض الدول الغربية لاسترداد نفوذها الاستعماري في بلادنا وثرواتنا وشعوبنا.

برأيكم، ما هو الدور الجوهري، الذي يمكن للفكر الإسلامي خصوصاً، أن يلعبه اليوم، في مقابل سيادة لغة الغرائز القاتلة؟

لو قلتُ إن الدّور هو في الارتقاء بالوعي الديني لاستولد هذا الجواب إشكالية أخرى تتلخص بالقول، وأين هو هذا الوعي الديني الكافي للتصدّي لِما يجري، لذلك، كما أشرتُ قبل قليل، فإن النُّخب المسؤولة عن إنتاج هذا الوعي في مواجهة الغرائز، هي نفسها بحاجة إلى إعادة النظر في رؤيتها وفي وعيها للمسألة الدينية لكي تكون مؤهلة لإنتاج هذا الوعي في أوسع دائرة من دوائر العاملين في مجال الدعوة الإسلامية. وهذا لا ينفي أنه تُوجد أمثلة بين المفكرين المسلمين إيجابية وحيّة وتتطلّع إلى إنتاج وعي متنوّر وفاعل، ولكن هذه الفئة ما زالت قليلة ومحاصرة بالسلطات السياسية والسلطات الدينية التي تُمارس قمعها لهذا الوعي أي تمارس القمع، ضد الحرية وخاصة حرية إنتاج الأفكار والرؤى الجديدة، وخاصة منها المتعلقة بقضايا الدين عامة. كل هذا يجعلني أقلّ تفاؤلاً مما كنت عليه، في حدوث تغييرات نوعيّة في حدود الزمن الذي نعيشه الآن ولكن هذا أيضاً لا يمنعني من التفاؤل بأننا، بعد هذه التجربة المُرَّة من الانهيارات الراهنة، أن أتطلّع نحو نهضة جديدة، سوف تفرضها النتائج القاسية التي سيتركها هذا الصراع البائس في مكوِّنات الأمّة.

سماحتكم، مشهودٌ لكم، احتضانكم ورعايتكم الكريمين، لـ”ملتقى الثلاثاء الثقافي”، في التسعينات من القرن الماضي، والذي اتخذ من منزلكم المضياف، مكاناً لإقامة ندواته وبلورة نشاطاته، فكيف تُقيّمون الدور الذي اضطلع به هذا الملتقى، من وجهة نظرٍ محايدة إذا أمكن؟

كان هذا الملتقى في بعض جوانبه نتيجة إحساسٍ بمظاهر التراجع الفكري والثقافي، على مستوى الأمّة، بصورة عامّة، وما نُسمّيه بالنُّخب الفكرية والثقافية، وهو ليس مؤهلاً لأن يُطلق مشروع نهضة شاملاً ومتكاملاً، ولكنه خلال سنوات عشر، أنجز مستوى جيّداً من الحوار، وعن الارتقاء بالوعي الثقافي بصورة عامّة. ونَمَتْ في أحضانه مواهب فكريّة وأدبيّةٍ، أحسبُ أنها اليوم، تُنجز الكثير في مجالات الإعلام والثقافة والأدب والفكر الإسلامي، وعلى الأقل، فإن هذا المنتدى، كان يطرح نفسه، كنموذج يتطلّع إلى قيام ما يماثله، خاصة في مدينة بيروت وفي لبنان. وهذا ما حصل شيء منه لأنه شجَّع على نشوء كثير من الملتقيات والمنتديات التي تتفاوت في تأثيراتها ولكنها، بصورة عامّة تُعيد الاعتبار إلى الإنجاز الفكري والثقافي والأدبي، على نحوٍ يتطلّب أن نعمل وأن يعمل المساهمون في ذلك اللقاء، على تجديده ولو بصورٍ وأشكال مماثلة أو مختلفة، حيث أن كل مبادرة من هذا النوع من شأنها بل يجب أن تستولد مبادرات مماثلة. وآخر الكلام: فإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

(شؤون جنوبية)

 

 

السابق
3 طائرات استطلاع اسرائيلية خرقت الاجواء
التالي
حزب الله: لكل معركة.. مقام