ما بين جبل عامل وسوريا (10/6)

أملاك واسعة

بتنا في زحلة ليلة واحدة ثم فارقناها إلى قب الياس حيث قضينا هناك ليلتين ويوماً جميلاً على نبع رأس العين وعدنا إلى زحلة فمررنا على تعنايل وهي قرية زراعية ذات أشجار غضة منوعة وقد اشتهرت في البطيخ الأصفر الذي يخرج من أرضها وهي من أملاك الآباء اليسوعيين ثم مررنا على الكسارة وهناك مرصد فلكي لليسوعيين أيضاً يتخلله كروم العنب من كل جانب وقيل لنا إن هذه الأملاك الواسعة صادرتها الحكومة العثمانية من الوطنيين وأعطتها لليسوعيين في حادثة الستين إرضاء لفرنسة وهكذا يأكل هؤلاء المحترمون خبزهم بعرق جبينهم.

ثم واصلنا السير للمعلقة فزحلة حيث قضينا بضع ساعات في زحلة ووادي العرائش وهناك جمعتنا الصدف بالرصيف قاسم أفندي الهيماني صاحب الفيحاء وعدنا بعد الغروب إلى المعلقة حيث بتنا فيها.

والمعلقة بلدة واقعة على طريق السكة الحديدية وهي متوسطة بين بيروت والشام ويبلغ عدد نفوسها زهاء خمسة آلاف نسمة بينهم كثير من المسلمين وبها جامع ودار للحكومة خربة. وهي اليوم مركز المحكمة الشرعية وكان قاضياً بها الشيخ رضا القباني البيروتي. أما اليوم فقد تعين قاضياً لها وطنينا محمد بهاء الدين أفندي الزين مفتي صيدا الأسبق. والمعلقة حديثة العهد بناها الأمير بشير الشهابي ثكنة لمعسكر إبراهيم باشا المصري بأنقاض بلدة كرك نوح.

كرك نوح

ذهبنا صباح الخميس لزيارة قرية كرك نوح التي خرج منها كثير من علماء الشيعة المحققين أشهرهم المحقق الكركي صاحب التآليف المشهورة. وكرك كلمة سريانية معناها الحصن. ونوح يرجح أنه الإله نواجع الكلداني أحد مثلثات الكلدان ويقولون أن بها قبر نوح وهو الآن يزار. وطول القبر زهاء أربعين ذراعاً وبناه الملك الظاهر البند قداري وقد هدم حصن كرك نوح الأمير بشير وعمَّر به الثكنة بالمعلقة – كما مر – والكرك بلدة قديمة وإلى الآن يظهر في كرومها قطع ذهبية، لكنها اليوم قرية صغيرة سكانها من المسلمين الشيعة والمسيحيين وهي شرقي المعلقة تبعد عنها نحو عشر دقائق مشياً على الأقدام وطريقها معبدة.

برحنا المعلقة ظهر الخميس (28 محرم) إلى رياق ومنها انتقلنا إلى قطار بعلبك فبلغناها بعد قطع تلك السهول الفسيحة عصر ذاك اليوم.

بعلبك

هذه هي مدينة الشمس، ومطلع السرور والأنس، ذات الأمواه المتدفقة، والحدائق الناضرة، والآثار القيِّمة والمناظر المونقة، جمعت من آثار الأقدمين وغرائب صناعاتهم ما لم تجمعه بلدة غيرها. وقد نزلنا فيها حال وصولنا في نزل ألوف وهو نزل جديد متقن يقابل القلعة من الجنوب حتى كأنها أمامك، وصاحبه الخواجه ميخائيل موسى ألوف من الأفاضل وهو قيِّم القلعة من زمن مديد وله تاريخ بعلبك وهو من أحسن التواريخ، وقد لقينا من لطفه ولطف مستخدميه وترتيب نزلهم واتقانه ما يجدر بالثناء. ولم نبت به سوى ليلة واحدة لأن بعض الإخوان أصرّوا علينا بالانتقال إلى بيوتهم فاخترنا النزول في بيت صديقنا ورفيقنا في عهد الدراسة السيد علي زين وهو سيد نجيب ثابت النَّسب يجتمع نسبه مع نسب السادة آل مرتضى وهؤلاء السادة المرتضويون كثيرون في بعلبك وهم من خيار أهلها، لقينا منهم كل حفاوة ورعاية وقاضي الشرع الشريف منهم وهو السيد محمد سعيد مرتضى والكل معجبون بمكارم أخلاقه وحسن سيرته. وكان مصطافاً هذه السنة في بعلبك صديقنا محمد جميل أفندي مروه التاجر المعروف فزادنا أنساً بهذه البلدة الجميلة وأهل بعلبك كرام يحتفون بالغرباء ويكرمونهم لذلك نستغرب قول صديقنا الأستاذ الشيخ عبد الرحمان سلام بها وقد أتاها أحدى السنين ليصطاف هناك فما وجد محلاً:

أتيت لبعلبك ومن أتاها         رأى في أهلها خلقاً عجيباً

كأن بيوتها أبيات شعري      فلا حشوا تضم ولا غريباً

رأس العين

وفي بعلبك متنزه من أبدع متنزهات سورية وهو منبع رأس العين فإنه مرجة خضراء والماء يجري كأنه الدر النظيم وتراه مزحماً بالرجال والنساء من العصر إلى العشاء لكن ماءه ثقيل ولو عُنِيَ بإتقان قهوته وتنظيمه لتضاعف الإقبال عليه. ولو تسنى جلْب نبع عين اللجوج التي كانت قديماً مجلوبة لبعلبك لتحسنت حالة بعلبك لأن ماءها الآن مع عذوبته وبرودته غير مريءٍ. ونبع اللجوج على مسافة ساعة ونصف ساعة من البلدة وجلبه سهل جداً لو تضافر الأهلون على ذلك لكن البعلبكيين متشاكسون متنابذون ليس شيعيهم وسنيهم ومسيحيهم فقط بل كل فرقة منقسمة على بعضها لا سيما الشيعة وهم الأكثرية الساحقة. وقد بلغ من تنابذهم أنهم أنشأوا مدرسة وطنية فسارت سيراً حسناً وبدت عليها أمارات التقدم والنجاح فوشوا بها واتهموها بالسياسة التي ما دخلت شيئاً إلا أفسدته وهي (البعبع) عند السلطة فأقفلت وهي والقائمون بها براء مما اتهموا به.

آل حيدر

ومن المستغرب جداً وقوع هذه الهنات في بعلبك مع أن وجهاءها اليوم آل حيدر جلهم إن لم نقل كلهم تعلموا في المدارس العالية وتذوقوا لذة العلم وعرفوا ما ينتجه التفرق من الخراب والدمار، والقضاء على الأوطان والديار، فيجعلها قاعاً بلقعا.

وكانت طلائع التضييق بادية في بعلبك وقضائها لتمرد ملحم قاسم وأعوانه مع أن جل من قابلنا من حكام وأهلين يعتقدون براءته شخصياً مما اتهم به أخيراً وكان المظنون أن يفك خناق البعلبكيين بعد القبض على ملحم قاسم لكن الطين زاد بلة وشددت السلطة تشديداً مرهقاً على بعلبك وقراها لا سيما على الشيعيين خصوصاً على آل حيدر فأرهقتهم بالضرائب من سلاح ومال واعتقال وهذه نتيجة الفتن (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).

وقد سمعنا تذمراً شديداً من بعض شبان آل حيدر الذين أفرطوا في الحرية حتى أصبحوا يشربون الخمرة علناً على رأس العين ولو أحسنوا صنعاً لاستجلبوا محبة الأهلين ولم يفعلوا ما هو مستهجن عندهم ولعلموهم درساً عملياً أن نتيجة العلم والتعلم الأخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة لا التهتك وعدم المبالاة بالناس وكأنهم يسيرون حسب قول الشاعر:

من راقب الناس مات غمّاً      وفاز باللذة الجسور

نقول هذا ونعلم أن فيهم من يفتخر بسيرتهم وأخلاقهم. ومن المبكي المشجي أنك لا ترى في مجالس البعلبكيين ومجتمعاتهم إلا التذمر والشكوى والقيل والقال.

ويعتني البعلبكيون بفرش بيوتهم واتقانها ويتأنق أكثرهم في الملبس لا سيما النساء.

بهاء الدين العاملي

وقد أنجبت بعلبك أدباء وعلماء وشعراء ومنهم الشيخ بهاء الدين العاملي صاحب الكشكول والمخلاة وغيرهما من المصنفات ومن بعلبك الأمراء الحرافشة الذين لعبوا دوراً مهما في تاريخ القرون الثلاثة الماضية وقد نشر تاريخهم الأستاذ المعلوف في مجلد السنة الماضية من العرفان وهو يكمله الآن ومنها تعلم سيرتهم فلا حاجة بنا لإعادتها هنا وقد تلاشت هذه الأسرة ولم يبق منها إلا أفراد يعدون على الأصابع (وتلك الأيام نداولها بين الناس).

وفي بعلبك ثلاثة مساجد اثنان للسنة وآخر للشيعة وهو أفسحها. ومقامات كثيرة ومنها مقام السيدة خولة وهو في غربي البلدة مقابل نزل عربيد وفيها نزل كثيرة أفخمها وأتقنها نزل الخوام وهو فوق رأس العين محاط بالأحراش والكروم يجد به المسافر كل راحة وسرور وإن كانت جل نزلها كذلك.

(شؤون جنوبية)

 

السابق
أوباما والشرق الأوسط: مرارة الموروث
التالي
المؤسسات التي قامت بتسوية اوضاعها