ما بين جبل عامل وسوريا (10/5)

سرّ عظيم

وقد زرنا قبر معاوية وهو قبر حقير مهجور بمكان قذر ظاهر عليه عدم العناية فقلنا هنا سر عظيم لو كان يدركه أصحاب تلك النزعة فإن العلويين قُتلوا في كل قطر ومصر وشتموا على المنابر وظُلموا واستيبيحت دماؤهم ولم يملكوا بل ملك أعداؤهم ومع ذلك فقد شيدت مقاماتهم أحسن تشييد وانتحل لهم في كل قطر مقامات عديدة في عاصمة بني أمية نفسها مقام للسيدة زينب والسيدة رقية وغيرهما من أهل البيت الطاهر وهي مبنية أحسن بنيان ويزورها الشيعة وغيرهم في كل موسم وآنٍ وهؤلاء بنو أمية أصحاب الملك والصولجان لا يعبأ بهم بل يكون قبر مؤسس دولتهم ومجدهم بهذه الحالة المزدرى بها فلا شك أن لأهل البيت الطاهر سراً عظيماً.

ولله سر في علاك وإنما         كلام العدى ضرب من الهذيان

وما أحسن ما قاله أحد مشاهير العلماء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام “ماذا أقول برجل كتم أولياؤه فضائله خوفاً وتقية وكنتم أعداؤه فضائله حسداً أو بغضاً وظهر من بين الكتمانين ما ملأ الخافقين”.

قاسيون المبارك

وفي دمشق جبل قاسيون وهو من الجبال المباركة التي يقال إنه أوى إليه بعض الأنبياء والصالحين، وفي سفحه الصالحية التي أصبحت بلدة كبيرة وفيها مقام العارف بالله الشيخ محيي الدين العربي وهو مقام متقن جليل يزوره المسلمون من كل حدب وصوب. والظاهر أنه كان بدمشق وضواحيها كثير من الشيعة لما رواه ابن جبير الأندلسي في رحلته لما زار دمشق في القرن السادس؛ أما الآن فهم قلائل وقد حسنت حالهم بوجود السيد محسن الأمين بين ظهرانيهم ذاك العلامة العامل. وقد أنشأوا مدرسة تدعى (المدرسة العلوية) أصبحت محط الآمال بهمة القائمين بشؤونها ومديرها أديب أفندي النقي البغدادي غيور نشيط. والإحاطة بمحاسن دمشق ووصف معاهدها لا سيما صحفها ومطابعها يحتاج إلى مقال مسهب. وقد حضرنا ليلة خروجنا من دمشق رواية بيدبا الهندي التي دبجتها يراعة الدكتور أسعد الحكيم ذاك الطبيب الفاضل الذي كرس وقته لخدمة أمته وذلك في المدرسة الهاشمية التي أسسها الشيخ كامل القصاب ويديرها اليوم الشيخ جودت المارديني فكانت حفلة باهرة دلَّت على مكانة المدرسة العلمية. وقد خرجنا من دمشق رغم الأصدقاء وعلى الرغم منا أيضاً فسلامٌ عليك دمشق وعلى شبابك الناهض ومعاهدك الراقية وعلى مدرستيك الطبية والحقوقية ومجمعك العلمي ومكتبتك الظاهرية وسلام وألف سلام على مياهك المصفقة وأنهارك الجارية وحدائقك الزاهرة ومتنزهاتك النضرة. سلام على الربوة والهامة ودُمَّر. سلام على علمائك العاملين وصحفييكِ المخلصين وحكامك النزيهين.

سلام عليك، سلام مودّع لك لا                عن قِلى وراحل عنك لا عن رضى

رحلت لا عن رضى عن رحب منزلكم          وبِنْتُ عنكم وقلبي عندكم باقي

المعلّقة وزحلة

برحنا الشام مع القطار صباح الأحد (25 المحرم 1343) فبلغنا المعلَّقة حوالى الظهر فذهبنا تواً لزحلة والمعلَّقة وزحلة أصبحتا كبلدة واحدة، فلم نجد مكاناً في تزل قادري، فعدنا إلى نزل جديد اسمه نزل (دواليبي) وهي قبالة نزل قادري وقد يفوقه بالإتقان وإن لم يحكه بالفخامة وفي زحلة نُزل كثيرة أغلبها على شاطئ البردوني وهي نظيفة متقنة وأشهرها قادري، وهي أبنية ضخمة فخمة تسع 150 سريراً ولها فسحة رحبة وفيها بهوان كبيران أحدهما للمقامرة والآخر للمخاصرة (الرقص الإفرنجي) وهي ملك الآباء الحناويين وجنوبيها حديقة البلدية وهي واقعة على الضفة الغربية من نهر البردوني ومقابلها على الضفة الشرقية نزل دواليبي ونزل طرابلسي وقد نزل به الحاج عبد الحسين جلبي من أعيان العراق ووزير معارفها الأسبق وقد زرناه فألفيناه يتوقد غيرة على طائفته ويشكو جمودها وتأخرها وعلى مقربة من وادي العرائش نزلان لطيفان متقنان وهما نزل الصحة ونزل الروضة.

وادي العرائش

وعلى ذكر وادي العرائش نقول إنه هو المتنزه الشهير في زحلة وبه عين البخاش وهو واد جميل يصدق عليه قول المنازي

وقانا لفحة الرمضاء وادٍ       سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا          حنو المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا        ألذّ من المدامة للنديم

يصدُّ الشمس أنى واجهتنا     فيحجبها ويأذن للنسيم

تروع حصاه حالية العذارى   فتلمس جانب العقد النظيم

ترى على جانبي نهر البردوني القهاوي المتقنة الجميلة وتحسب نفسك وأنت هناك في يوم المحشر لا سيما يوم الأحد. وبعد المغرب منظر نضير لا يمكن لليراع أن يصف حسنه وجماله، وما أبدع تلك القناديل الكهربائية التي تنير الوادي فلها إذا أشرفت عليها من علٍ لطف يأخذ بمجامع القلب، لا سيما وأن غزلان الوادي وبدُوره المشرقة تسرح وتمرح وتبدو في كل مكان فيه والحق يقال إني لم أشاهد في سفري كله أجمل من منظر وادي العرائش في زحلة وأنك حيث سرت هناك تلتطم الأذرع بالأذرع والأكتاف بالأكتاف ولكنه غالباً في دمقس أو حرير. وقد حدثني بعضهم أن ميا الكاتبة المعروفة لما هبطت زحلة أراد الزحليون أن يُروها ما وصلت إليه هذه المدينة بعدها من العمران فطافوا بها كل قصر مشيد ومعهد جديد حتى أدتهم خاتمة المطاف عند الغروب إلى وادي العرائش فقالت لهم لماذا لم تأتوا بي إلى هنا من أول الأمر فإني لم أر في كل ما رأيته أمراً عجيباً ولا منظر غريباً، نعم هنا الحسن والجمال كله وهنا جمال زحلة الفتان.

وكان يوم الأحد الذي وصلنا به إلى زحلة من أيام الهاجرة فمع هواء الوادي البليل ومياه البردوني الباردة كان الحر شديداً ولا نكتم القارئ أنَّا مهما وصفناه له من بدائع زحلة، لا سيما وادي العرائش، لا يرى مثلنا به السرور الذي يتطلبه لأن الخمرة في الوادي أكثر من الماء حتى لا يكاد يجد المرء مكاناً خالياً منها. ولا غرو فمن مميزات زحلة اشتهارها بصنع العرق وإذا وصفوا عرقاً بالجودة قالوا (عرق زحلاوي) ونحن ممن تؤذيه رائحة العرق لكن هي السياحة وحب الإطلاع تدفع المرء لولوج أمكنة لا يألف مخبرها وأن تعشق منظرها.

يُقضى على المرء في أيام (رحلته)    حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

عيسى اسكندر المعلوف

وقد زرنا في زحلة صديقنا الأستاذ عيسى اسكندر المعلوف صاحب المؤلفات الممتعة وأكثرها لم تزل مخطوطة نخص منها بالذكر تاريخ الأسر الشرقية الذي سيكون من الكتب النافعة لو تيسر إتمامه وتمثيله للطبع. ولديه كتب مخطوطة نادرة ضمها إلى مكتبته النفيسة، ومنها ما اشتراه في الحرب، وقد استفدنا منه بعض المعلومات التاريخية عن زحلة وما إليها من المدن التي زرناها وهو مصاب بمرض الربو (ضيق النفس) فتراه أكثر أوقاته ملازماً سريره ومع ذلك فلا يكل ولا يمل من الكتابة والبحث والتأليف فنرجو له الشفاء ليتسنى له إتمام ما بدأ به وهو اليوم من أعضاء المجمع العلمي العاملين في دمشق. وزرنا حضرة المطران كيرللس مغبغب مطران الكاثوليك في زحلة فألفينا منه كل لطف ودار المطرانية دار واسعة متينة البناء حسنة الهندسة.

وزرنا دار الحكومة وهي في أعلى مكان من البلدة متسعة فخمة وألفينا في خارج المحكمة العدلية ازدحاماً شديداً لم نر مثله بمكان آخر وزرنا فيها صديقنا البير أفندي شدياق ناموس المتصرفية فأحبَّ أن نزور المتصرف وكان يومئذ سليم بك تقلا ناظر الداخلية اليوم. فألفيناه شاباً ألمعياً نشيطاً وزرنا إدارتي زحلة الفتاة والصحافي التائه وهما الجريدتان اللتان تصدران بزحلة ولكل منهما مطبعة خاصة.

وفي زحلة مدارس كثيرة أشهرها الكلية الشرقية. والمعيشة فيها غالية بالصيف لكثرة من يؤمها من الغرباء والمصطافين.

(شؤون جنوبية)

 

 

السابق
بين نصرالله والحريري؟
التالي
إسرائيل تستعد لعدوان على الفلسطينيين