ما بين جبل عامل وسوريا(10/4)

غطرسة

لم نلبث سوى ليلة في صوفر العاجة بالمصطافين والتي تربح منهم أرباحاً طائلة لا يستهان بها مع قلة مياهها وحدائقها. وقد لاحظنا أن الغطرسة ظاهرة على أصحاب الفنادق الكبرى في عاليه وصوفر وزحلة لكثرة أشغالهم وأرباحهم خلاف أصحاب الفنادق الصغيرة التي لا تزدحم بالمسافرين. وصوفر ولا شك أحسنهم معاملة. وفارقناها في اليوم الثاني راكبي القطار إلى المريجات ومنها ذهبنا إلى قب الياس وهي بلدة جميلة ذات مياه غزيرة وبساتين غناء وكروم فيحاء؛ إلا أنها واقعة في منخفض من الأرض وليس بها أسباب تُحَبِّبُ المصطافين بها ومع ذلك فبعض البيروتيين يصطافون بها، وفيها أسرة قزعون المعروفة وقد نزلنا عند أحدهم أيوب أفندي قزعون فأكرم وفادتنا وبعد مبيت ليلة بها فارقناها في السيارة إلى المعلَّقة ومنها ركبنا القطار الليلي إلى دمشق عاصمة سورية ومحط آمال الأمة العربية.

دمشق الشام

وصلنا في القارئ الكريم إلى دمشق التي بلغناها قبل نصف الليل بساعتين ونزلنا بها في نزل (السنترال). وماذا عسى أن نحدِّث القراء عن دمشق وهي جنة الدنيا الزاهرة، ومجمع الحدائق الناضرة، وقرارة المحاسن وعصارة البدائع وهي لعمر أبيك مفخرة العرب، ومجمع العلم والأدب، وقطب دائرة النهضة وكعبة الشباب الراقي، وأمل العرب اللامع، ولله در ابن النقار حيث قال:

سقى الله ما تحوي دمشق وحياها       فما أطيب اللذات فيها وأهناها

نزلنا بها واستوقفتنا محاسن                يحنُّ إليها كل قلب ويهواها

سلام على تلك المعاهد إنها             محط صبابات النفوس ومثواها

رعا الله أياماً تقضت بقربها                فما كان أحلاها لدينا وأمراها

كان وصولنا لدمشق ليلة التاسع عشر من المحرم على أن نمكث بها ثلاثة أيام فمكثنا خمسة أيام لأن أهل دمشق كرام، ولنا بها أصدقاء صدق وإخوان وفاء كنا في ضيافتهم كأعز من والد وولد وأخ شقيق، وابن عم شفيق، وزرنا عصر ذاك اليوم مع بعض الأصدقاء متحف المعارف وهو من أبدع الأبنية وضع في بهو كبير منه أنواع الأشغال اليدوية التي صنعها الأساتذة والتلامذة من المدارس التابعة للحكومة وفيها من الصناعة الدقيقة ما يبرهن على ذكاء السوري الفطري وأياديه الطائلة في كل فن يتعاطاه. وعلى ذكر معارف دمشق نقول إن المعارف هناك قيض الله لها أحد الأمراء العسكريين القديرين وهو نصوحي بلك البخاري فجمع بين المعرفة وقوة الإرادة فجعل لمعارف دمشق، وهو مديرها، شأناً يذكر وفي معيَّته شبان راقون غُيُرٌ يؤازرونه في هذه المهمة.

ولدمشق أو الشام أو الفيحاء أو جلَّق أو آرام كما دعاها التوراة تاريخ يتلألأ عظمةً فهي من أقدم بلدان الدنيا ومضى عليها 1450 سنة قبل المسيح. وهي تحكم نفسها بنفسها مستقلة. وشيد فيها أيام الأمويين من القصور الشامخة ومن المدارس العظيمة والمساجد الفخمة ما يندر مثله في الدنيا. وحسبك منها قصر الخضرة لمعاوية والجامع الأموي وقد وقف فيها الملوك ولامحسنون أوقافاً جمة على انواع من البرّ والخيرات ومنها على جهازبنات الفقراء اللاتي لا يستطيع أهلهن جهازهن ومنها على المواعين التي تكسر فقد روى ابن بطوطه في رحلته قال: “مررت يوماً ببعض أزقة دمشق فرأيت مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني وهم يسمونها الصحن فتكسرت واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم إجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن وهذا من أحسن الأعمال”.

الجامع الأموي

ولو لم يكن في دمشق سوى جامعها الكبير لكفى. يدخل إليه المرء فيحار فيما ينظر من بدائعه ومحاسنه من عواميد ضخمة وشكل هندسي بديع ونقوش تبهر الأبصار ومحاريب موشاة بالذهب على أنه لم يبق منه بعد حرقه سوى قسم من الحائط الشمالي يمثل أبدع شكل من الصناعة العربية والفسيفساء المصنوعة بالذهب هذا هو الجامع الأموي الذي أنشأه الوليد بن عبد الملك وأنفق عليه خراج المملكة سبع سنين. وفي شماليه بناء فخم يقال إنه مشهد رأس الحسين عليه السلام الثابت أن رأسه الشريف أعيد إلى العراق ودفن مع الجثة ولعله وضع هناك لما حضر للشام.

 طراز شرقي عربي

ومما يعجب به الشرقي أن عمارات دمشق طرزها شرقي عربي وإنك لترى دور دمشق من الخارج فتزدريها وحينما تدخلها ترى مثال الإبداع والإتقان وأكثرها منقوشة بأنواع النقوش ومحفور على جدرانها بيوتات من الشعر. وهذه دار أسعد باشا العظم التي اشتراها الفرنسيون وجعلوها داراً للآثار لا تقع العين على أفسح منها وأحسن اتقاناً وأبدع نقوشاً ولا أبالغ إذا قلت أن الداخل إليها يقف ساعة في ساحتها مبهوتاً من سعتها وإتقانها. وينظر إلى بركة هناك من أوسع البرك وأبدعها منظراً كأنها نهر متدفق. ولا تسل عن أنهار دمشق السبعة وحدائقها ومتنزهاتها ومعاهدها ومصانعها فكلها بهجة الناظر وسرور الخاطر. وقد زانت دمشق المكتبة الظاهرية التي حوت إلى الآن زهاء عشرة آلاف مجلد بينها قسم من المخطوطات النفيسة. وإنك لتراها أكثر الأحيان ملأى بالمطالعين والمستفيدين.

المجمع العلمي

وزان دمشق المجمع العلمي الكائن في المدرسة العادلية فإن أهل الفضل لا يملون من سكنى دمشق إذ يرون من رئيسه وأعضائه كل لطف وكرم أخلاق فضلاً عما يتلى به كل أسبوع من المحاضرات وقد حضرنا الحفلة التي أقيمت للآلوسي والمنفلوطي فكانت حفلة غاصة بأهل الفضل والأدب يندر نظيرها وزرنا دار الحديث التي يدرس بها ويسكنها الشيخ بدر الدين المحدث المغربي الشهير وهو شيخ جليل ذرَّف على الثمانين وما زال يقرر المسائل بلسان فصيح وجنان ثابت. وكان عنده الشيخ أبو عبدالله الزنجاني فدعانا وكيله الشيخ يحيى لغرفته وقدم لنا الشاي الأخضر ولقينا منه كل مجاملة وكتب للزنجاني إجازة في الرواية عن الشيخ بدر الدين وطلب منا أن يكتب لنا إجازة أيضاً فاعتذرنا بضيق الوقت.

ولقد لقينا من الأستاذ الشيخ صالح التونسي كل مكارم وكرم وفادة وزرنا معه المدرسة الشميصاتية التي يرأسها الشيخ توفيق الأيوبي. واجتمعنا هناك بشيخ تركي كنا اجتمعنا وإياه على مائدة الملك حسين بمكة المكرمة ولو أردنا تفصيل ما نلقاه من مكارم إخواننا الدمشقيين لما وسعت هذه العجالة نشر فضائلهم وجلهم أهل فضل ونبل. وكان الدمشقيون معتصبين على شركة الحافلات الكهربائية (الترامواي) فلا يركبون بها حتى أنَّا دُعينا ليلة لتناول العشاء في الميدان الفوقاني فعدنا مشاة والمسافة زهاء ساعة. وتمتاز الشام بصناعاتها الدقيقة من نسج وحياكة ونجارة وتطعيم بالصدف ولا تدخل بيتاً من بيوت الشام إلا وترى به أثراً جميلاً من هذه الصناعة النفيسة. ويغالون أيضاً بالأواني الصينية المنوعة التي يضعونها للزينة فقط. وكانت دمشق مشهورة بسيوفها لكن هذه الصناعة تلاشت الآن منها لأن تيمورلنك أخذ معه المتخصصين بها فانتقلت إلى سمرقند.

وزرنا صديقنا الدكتور عبد الرحمن شهبندر الذي أجمع الوطنيون المخلصون على حبه فحدثنا عما شاهده في رحلته إلى أروروبا وأميركا وأنه لقي احتفاء به من المسيحيين أكثر من المسلمين وقال من أراد أن يتعلم الوطنية الصحيحة فليتعلمها من أولئك النفر الكرام. ولا عبرة ببعض الصحف المسيحية التي أطالت لسانها وافترت عليه فإنها ذات أغراض معلومة يعرفها الخبيرون والغرض مرض.

إذا رضي عني كرام عشيرتي            فلا زال غضباناً علي لئامها

والشهبندر حسن الحديث بارع المنطق تظهر عليه لمحات الإخلاص وقد رأينا في دمشق هذه المرة نزعة دموية أهاج هائجها أفراد معدودون وتبعهم آخرون خشينا منها من الفرقة بعد الاجتماع.

السابق
ما هو سبب انتحار معتمرة صينية داخل الحرم المكي؟
التالي
هكذا اغتال «حلفاء الأسد» قادة «المقاومة الوطنية»