ما بعد الانتفاضات العربية: ماذا فعلت النساء؟

في المجلّد السادس عشر من /باحثات”1، الكتاب السنوي الصادر عن “تجمّع الباحثات اللبنانيات”، كتَبَ باحثات خمس وباحث واحد عن طبيعة مشاركة النساء في الانتفاضات العربية في بلدان أربعة هي ليبيا، اليمن، مصر، وتونس. مقالات هؤلاء تقدّم إلى القارئ، وبكثافة مرحّب بها، جوانب أساسية من مواقع النساء في الانتفاضات في البلدان الأربعة وأكثر من صورة لأشكال مشاركتهن فيها، موفّرة، بذلك، قاعدة من المعلومات والتحليلات والمعارف تسمح بمتابعة أحوالهن.

في بعض التساؤلات التي تستثيرها هذه المقالات، تحريضٌ على المزيد من البحث حول حركة مجتمعاتنا، فلا “تفاجئنا” انتفاضاتها ولا مصائرها. في ما يأتي، قراءة في الجديد الذي تقدّمه دراسات أربع في هذا المجلّد تناولت مشاركة النساء في الانتفاضات؛ وهذه كُتبت بالعربية بقلم كلّ من عبير أمنينة (ليبيا)، عمرو علاء (مصر)، أمال قرامي (تونس)، منى المحاقري (اليمن).

الجديد في النصوص
تمهيداً للكلام عن المرحلة ما بعد الانتفاضات، تناولت النصوص الأربعة مرحلتَي ما قبل الانتفاضات وخلالها. لكن ما أجده جديداً في هذه النصوص هو الكلام عن مرحلة ما بعد الانتفاضة (الانتقالية) حيث بدا أداء النساء بيّنة على تطوّر المجتمع المدني في كلٍ من البلدان الأربعة ونتيجة لتطوّر الحركة النسائية فيها.
ففي مصر، تمّ تعيين نساء خمس في لجنة الخمسين التي شكّلت من أجل صوغ مسوّدة الدستور في عهد السيسي. الجدير ذكره، أن اثنتين منهن رأسَتا لجنتَين من خمس لجان تشكّلت من اللجنة الكبرى لإنجاز المهمّة. مقال علاء بمثابة توثيق تفصيلي لأسلوب عمل ثلاثٍ من هؤلاء: هدى الصدّة (رئيسة لجنة الحقوق والحريات)، ميرفت التلاوي (رئيسة لجنة المقوّمات الأساسية للدولة) ومنى ذو الفقار عضوة في لجنة الصياغة.
في الدراسة التونسية نجد وصفاً لتطوّر آليات التعبئة والحشد والمناصرة لدى الناشطات فرَضها مسار الثورة وبروز التيارات الإسلامية التي لم تخفِ رغبتها سلب النساء المكتسبات التي حصّلنها في العهود السابقة للجمهورية. تمثّل ذلك في توجّه الجمعيات النسائية الديموقراطية الهوى، نحو القاعدة النسائية، تجاوزاً للمراوحة في إطار النخبة، كما كانت عليه الحال قبل الانتفاضة. من بيّنات ذلك، نشاط الأكاديميات والحقوقيات والإعلاميات لتطوير الخطاب النسوي النخبوي وتطويعه ليصبح متاحاً للجميع في مواجهة التيار الإسلامي، من الرجال والنساء.
في ليبيا، كان النظام البائد قد ألغى نشاط المجتمع المدني، لكن النساء حصلن على مكتسبات في أحوالهن الشخصية بفعل “إرادة” القذافي العليا. هكذا، فإن بعض أولويات المنتفضين – إسلاميين وقبائل- كانت سلب النساء تلك المكتسبات. ولأن النساء الليبيات مُنعن في العهد البائد من الانتظام في جمعيات أو أحزاب، فإن سلب مكتسباتهن واستبعادهن من العملية الانتقالية لم يلقَ مقاومة منظّمة منهن على غرار مقاومة التونسيات، مثلاً.
في اليمن، كان على الكاتبة أن تستدعي المؤشرات التنموية لتبيان تواضع أحوال النساء والتمييز ضدّهن في مرحلة ما قبل الانتفاضة؛ وذلك من أجل تفسير هامشيتهن وضمور تنظيمهن في أطر “نضالية”، وتمهيداً للقول بأن خروج النساء للمشاركة في الانتفاضة كان مفاجِئاً للجميع، بمن فيهم النساء أنفسهن، فيما استبعادهن من مرحلة ما بعد الانتفاضة كان متوقّعاً. ولم يكن بروز شخصيات استثنائية مثل توكل كرمان (التي لم تحمل مشروعاً سياسياً ولا نسوياً) يفي بالحاجة، في رأي الكاتبة. المشكلة تتمثل في غياب أطر تنظيمية متمرّسة بالنضال النسوي.

الأهمية والإضافة
تكمن أهمية هذه الورقات حول مشاركة النساء في الإنتفاضات في البلدان الأربعة، في رأيي، في كونها كُتبت بأقلام مشاركين في تلك الانتفاضات أو كانوا شهوداً عليها؛ وهي جُمعت جنباً إلى جنب في مجلّد واحد (باحثات 16) لتسمح بإلقاء نظرة شاملة على موقع النساء في هذه الانتفاضات وأدوارهن في البلدان الأربعة. وهي جاءت في إطار مساهمات لكاتبات وكتّاب آخرين تناولوا مناحي أخرى من الانتفاضات لتوفّر لها السياق الأعم المحيط بها. هذه النصوص تتوجّه إلى الباحثة والناشطة النسويتَين على وجه الخصوص: إذ يمكن الباحثة توليد أسئلة إضافية حول الإشكالات النسوية المطروحة وتعميق البحث حولها، وتسمح للناشطة بالافادة من الدروس المتضمّنة فيها للحركة النسوية في عالمنا العربي.
لكن الورقة المصرية بقلم علاء، وهو المقرّر في لجنة الخمسين المذكورة أعلاه والموثّق لنقاشاتها، تُقدّم، في رأيي، الإضافة الأهمّ من بين الورقات الأربع. هذه الورقة توثّق لتفاصيل عمل نساء ثلاث (ذُكرت أسماؤهن أعلاه) في موقع للقرار هو الأعلى في الجمهورية المصرية؛ نتكلّم عن لجنة صوغ الدستور الذي ستنتظم، على أساس بنوده، حياة المجتمع: أفراده ومرافقه ومؤسساته في كل المجالات، سواء العامة منها أو الخاصة. إن متابعة أداء النساء الثلاث، سواء في عقد التحالفات وفي التفاوض وفي أسلوب طرح المسائل النسائية، أو في المثابرة على جعل المساواة الجندرية أساساً، لا يمكن تجاهله، في الحقوق وفي المواقع التي يجري تناولها في شتّى الأمور والمجالات المطروحة في الدستور. هذه المثابرة وذلك الأداء، لا يثيران الإعجاب فحسب (كما أثاراه لدى الكاتب)، إنما تسمح بإرسال درس مهمّ للحركة النسوية وللتيارات الديموقراطية معاً.
الجدير ذكره، أن هؤلاء النساء الثلاث – وكما وصفهن الكاتب- هنّ حصيلة نضال نسوي وديموقراطي رائد امتدّ لسنوات عديدة في منظّمات حكومية ودولية وغير حكومية، تبوّأن فيها مهام قيادية، اكتسبْنَها بجداراتهن الشخصية والعلمية، لا تبعاً لانتماءاتهن العائلية والقبَلية والطائفية إلخ. هؤلاء تمرّسن بالعمل في إطار مؤسّسي فاكتسبن مهاراتهن التنظيمية فيها. ونحن نتعرّف إلى هذه المهارات في وصف الكاتب الدقيق لأوجه التحالف والتنسيق بينهن ولـ”المناورات” التي اتّبعنها من أجل تحصيل دعم أكثرية أفراد لجنة الخمسين لطرحهن. هكذا تختلف هؤلاء عن القيادات في الحركة النسائية في موجتَيها الأولى والثانية عندنا، واللواتي اعتمدْن كاريزمتهن وعلاقاتهن الشخصية بصانعي القرار من أجل إمرار مكاسب جزئية للنساء. إن العمل الجماعي والدؤوب الذي اتصف به عمل هؤلاء النساء يمثّل قدوة/ إلهاماً للنسويات اللواتي يرغبن في أن يكنّ فاعلات في مواقع القرار في بلادنا العربية.
إن الرسالة الأهم التي تتضمّنها الدراسات الأربع تتمثّل، في رأيي، بإبراز أهمية العمل المستمر والدؤوب للنسويات في أطر تنظيمية في مرحلة “السلم” لأنها تسمح بتطوير صوغهن لقضاياههن والإعلاء من أدائهن التنظيمي. خلاف ذلك، “تُستغل” النساء للحشد وللافادة من مهاراتهن التقليدية في أبّان الانتفاضات لتُستثنى من المكتسبات والإنجازات في مسار العملية التي تليها. هذا العمل المثابر والدؤوب آتى ثماره في تجربتَي مصر وتونس وكان لغيابه الأثر السلبي في ليبيا واليمن.
نشير، أخيراً، إلى أن هذه الدراسات لم تُول أداء النساء من “المعسكر الآخر” الاهتمام الكافي؛ إذ أن الورقات كلها، باستثناء إشارات قليلة في بعضها، غيّبت مشاركة النساء اللواتي انتمين إلى معسكر النظام (في اليمن) أو الإسلاميات (مصر وتونس وربما ليبيا؟). هذا تغييب مؤسف؛ ففي متابعة مسار هذه الانتفاضات ومآلاتها يتبيّن أنه ما عاد جائزاً أن تُغفل ابحاثنا قسماً من نسائنا “اللاعبات في الثورات العربية”.

“اللاعبون في الثورات العربية: تعبيرات وأشكال مبتكرة”

(النهار)

السابق
الجسر يكشف جدول اعمال الجلسة السادسة من الحوار
التالي
إدارة الفوضى في الشرق الأوسط وإدارة الازدهار في شرق آسيا