زمنٌ جميل عشناه معاً

ليس أقسى من أن يأتيك نبأ مفجع عند منتصف الليل، فيما أنت تحمد الله على أنّ نهارك قد مضى على خير، وأنّ صبحك قد يكون أفضل.. «لقد غيّب الموت الزميل عرفات حجازي عن عمر يناهز التاسعة والستين عاماً».

كنت أتصوّر أن صاحبي أبا ياسر سيظل شابّاً في مقتبل العمر، تماماً كما عرفته على الشاشة في أوائل السبعينيات، ورجلاً ممتلئاً بالحيويّة والنشاط يوم قُدّر لي أن أكون زميلاً له في «تلفزيون لبنان» في أوائل الثمانينيّات، حتى خيل إليّ (والعزة لله) أن زميلي وصديقي وأخي عرفات، عصيّ على الموت.
بالأمس وهو محمول على الأكفّ إلى مثواه الأخير في بلدته الوادعة عيتا الجبل، وسط حشد من الأصدقاء والزملاء والمحبين، تفتحت ذاكرتي على الزمن الجميل الذي عشناه سوياً في رحاب الصحافة والإعلام. فما الذي أذكره عن أبي ياسر؟ بل ما الذي لا أذكره عنه طوال أربعة عقود من الزمن تحوّلت فيه صداقتنا وزمالتنا إلى علاقة عائلية حميمة؟
أذكر الأيام والسنوات الصعبة التي عشناها سوياً مع ثلة من الزملاء في «تلفزيون لبنان». كنّا عائلة واحدة متماسكة يحتضنها أبو ياسر بدماثة الخلق وحسن الطوية وطيب المعشر. عائلة تفقده اليوم وهو في عزّ عطائه.
أذكر سنوات الحرب الطويلة التي قاسينا فيها الكثير، ولم تفتر همّتنا يوماً معه في إبقاء الشاشة الصغيرة عصية على الانطفاء والسواد. تلك الليلة التي لا تمحوها الذاكرة يوم تساقطت القذائف الثقيلة فوق رؤوسنا، وتهاوى جزء من المبنى، وتناثر الغبار فوق رأسه وهو في مستهلّ النشرة الأخبارية.
في تلك الليالي الحالكة كانت ملالات الجيش تنقلنا إلى منازلنا وتملأ الشوارع ضجيجاً. لكنّ ضجيجنا على الشاشة لم يتوقّف، خاصة في زمن الاحتلال الإسرائيلي، يوم حوّلنا «القنال 7» إلى «تلفزيون المقاومة». كان عرفات رجلاً مسالماً، لكنّه مع العدوّ الإسرائيلي كان مقاوماً.
مع عرفات حجازي يطول الشرح ويطول. ثلاثة عقود وأكثر رافقته وعايشته. أحببته بكل ما فيه. وبكيته حزناً وألماً وشعرت أنّي فقدت قطعة عزيزة مني وأنا أنظر في عيني السيدة الغالية أم ياسر. وهي تقول لي: «لقد مات رفيق دربك».
الصبر، الصبر، أم ياسر. ففي هذه الفاجعة يحضرنا فقط قول الله تعالى: «وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون».
لا أملك في هذا الرحيل المباغت، يا صديقي ويا زميلي ويا أخي الحبيب غير الدعاء. سلام لروحك. أسكنك الله فسيح جنانه. وإنّا لله وإنّا اليه راجعون.

(السفير)

السابق
مطلق النار في كوبنهاغن لم يزر «عين الحلوة» ابدا
التالي
إليك 4 أسباب للعنوسة