إدارة الفوضى في الشرق الأوسط وإدارة الازدهار في شرق آسيا

في ما يلي قراءة ومحاولة تحليل لنصّ “استراتيجيّة الأمن القومي” الأميركية الجديدة وتوجّهاتها السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة.

فكيف تنظر الوثيقة إلى منطقة الشرق الأوسط وكيف تحدِّد أولوياتها في العالم من أوروبا إلى الصين وماذا يمكننا أن نستنتج من بين سطور النص؟

ربما كان استخدام مصطلح “الانسحاب” الأميركي من الشرق الأوسط استخداما يحتاج إلى تدقيق أو تعديل بعد صدور وثيقة “استراتيجيّة الأمن القومي – شباط  2015” عن البيت الأبيض وبتقديم من الرئيس باراك أوباما. فالوثيقة الجديدة وهي الثانية خلال ولايتَيْ أوباما، الأولى عام 2010، تستخدم مصطلحيْ “إعادة وزن” (أو توازن) و”تركيز” على منطقة شرق آسيا والباسيفيكي. هذا التحوّل تؤكده روحيّة الوثيقة وترتيبها للأولويات لكن كل ذلك لا يعني الانسحاب من الشرق الأوسط حسب التعبير الذي شاع بعد إعلان الرئيس أوباما في ولايته الأولى عن التركيز الجديد على منطقة الباسيفيكي وقواه الآسيويّة الصاعدة والقوية.
فالشرق الأوسط حاضرٌ في العديد من الانشغالات الأساسيّة لنص الوثيقة في السياستين الداخليّة (الإرهاب) والخارجيّة (النفط والأمن والاستقرار) الأميركيّة حتى أنه من الناحية الكمية استأثر في مجموعه بكلام أوسع من الكلام عن أوروبا في حين حدّد الأولويات الخارجيّة حسب الترتيب التالي:
الأولى هي “دفع” إعادة التوازن في آسيا والباسيفيك إلى الأمام.
الثانية هي التأكيد على العلاقات مع أوروبا وحلف الناتو.
الثالثة هي السعي لتأمين الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الرابعة هي العلاقات داخل القارة الأميركية.
تعلن الوثيقة أن نصف معدلات النمو في السنوات الخمس المقبلة ستأتي من آسيا. يساق هذا الرقم هنا لتأكيد الأهميّة الاستراتيجية للصين وللمنطقة المحيطة بالصين. لكن هذه الأهمية الاقتصادية التي تبرّر التركيز الأميركي عليها تُواكَب بمجموعة علاقات أمنية مع العديد من دول شرق آسيا والباسيفيكي من الفيليبين إلى أستراليا وبما أصبح معروفاً وهو “محاصرة” الصين بعلاقات مع جميع هذه الدول لا سيما منها الصغيرة كفييتنام وأندونيسيا وماليزيا الحذرة من هيمنة صينيّة أو الكبيرة كاليابان والهند الحسّاستين حيال دور صيني توسّعي.
من المفيد الإشارة إلى طريقة توصيف كل من الهند والصين وروسيا من منظور الاستراتيجيّة الأميركية.
لاحظوا الكلمات ودلالاتها الكاشفة: تقول الوثيقة “إمكانية الهند” و”صعود الصين” و”عدوان روسيا”. الأولى مع الهند إيجابية بوضوح لأنه في مكان آخر من النص تتحدّث عن تعزيز الشراكة مع الهند. الثانية مع الصين تحمل كل المعاني الإيجابية والسلبية من حيث الاحتواء والموازنة والضغط والتعاون والتنافس ولكنْ “نرفض فكرة عدم إمكانيّة تلافي المواجهة معها” كما تقول بوضوح في المقطع الخاص المخصَّص للصين، والثالثة واضحة جدا عن روسيا إذْ تتكرّر صورة روسيا في النص باعتبارها “عدوانيّة” ويجري التركيز عليها في الترتيب الثاني بعد آسيا للعلاقات مع أوروبا بما يكشف بوضوح أن حسابات المرحلة المقبلة بالنسبة لواشنطن تقوم على الاستمرار المنهجي في الهجوم السياسي على روسيا تحت شعار “العدوانيّة الروسية” الذي يبدو هنا شعارا مركَّزا وثابتاً. هذا يعني في العمق أن الروس هم في موقع دفاعي بينما الأميركيّون في الهجوم.
كلُّ نمطِ عرْضِ الوضع في الشرق الأوسط من خلال نص الوثيقة يُظهِر أن الولايات المتحدة تستعد تحت مسمّيات إيجابية: الاستقرار، دعم التحوّل الديموقراطي، والتقدّم الاقتصادي… إلى ما هو عمليا إدارة الفوضى لزمن طويل في هذه المنطقة مع التأكيد على اعتبار التفاوض مع إيران لإنهاء طموحها العسكري في المجال النووي وحلِّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس أمن إسرائيل وقابلية دولة فلسطينيّة للحياة هما المشروعان الرئيسيان في التعامل مع تلك المنطقة، منطقتنا. على أن الملاحظة التي قد تكون مفيدة هنا هي أن الوثيقة تشدِّد في مقدّمتها على بحث واشنطن الدائم عن شركاء جدد وقادرين. يأتي ذلك في مجال توصيف الزعامة الأميركية باعتبارها ستُمارَس عبر شركاء جدد، دول ودول فرعية داخل الدولة وقوى جديدة اقتصادية غير دولتية دون نسيان تكرار تمسّك واشنطن بحلفائها التقليديّين. يصلح ما سبق لكي يكون هو الإطار البراغماتي للعلاقة المحتملة مع إيران كشريك جديد على قاعدة التخلّي الإيراني عن مشروع السلاح النووي. فإيران، يمكننا أن نستنتج حسب مواصفات النص، هي أحد الشركاء الجدد المرشّحين للعب أدوار في مجالات غير مختَبَرة سابقا في العلاقات بين واشنطن ونظام رجال الدين الإيرانيّين. ويمكننا عندها أيضاً في حال توصّل الطرفان الأميركي والإيراني إلى اتفاق أن نتصوّر إمكانات طهران في المساهمة في إدارة الفوضى الشرق أوسطيّة وتحديدا العربية عبر المساهمة في احتواء هذه الفوضى أو تنظيمها بما لا يجعلها تخرج عن السيطرة الإقليمية والدولية. لكنّ هذا البعد، أي البحث الأميركي عن الشريك الجديد القادر، يستلزم هنا السؤال، في ضوء التصميم الأميركي على اعتبار روسيا “قوة عـدوان”، عن نوع العلاقات الإيرانية الروسيّة وحدودها في حال تقدّمت واشنطن وطهران نحو اتفاق وأية مسافة ستكون بين طهران وموسكو الأقرب حالياً إلى أن تكونا حليفتين بل حليفتين فعليّتين في العديد من الدوائر وأبرزها في الحرب السوريّة.
أما حول النفط فبقدر ما هي الوثيقة حاسمة في التأكيد على “التحوّلات الدراماتيكيّة” في مجال تكنولوجيا المصادر غير الملوّثة وتكنولوجيا النفط والدور الرئيسي للولايات المتحدة في ذلك ممّا يجعل منها، حسب النص،الأقل اعتمادا اليوم على النفط الأجنبي منذ عشرين عاما كما أنها المنتجة الأولى في العالم للنفط والغاز… بقدر ما هي كذلك بقدر ما أنها تحرص على استمرار تدفّق نفط الشرق الأوسط إلى الأسواق العالمية باعتباره ذا أهمّية حيوية. هذا يعني، كاستنتاج من خارج النص المباشر للوثيقة، أنه في السنوات المنظورة المقبلة لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي لا تراجعَ استراتيجياً في أهميّة النفط العربي والمسلم الشرق أوسطي رغم أن المستقبل بات يحمل إمكانيات تعويض أميركية عن هذا النفط، تعلن الوثيقة أن عصر مصادر الطاقة الأجد والأنظف بدأ ولكن دون تغيير منظور في أهمية نفط الشرق الأوسط… حتى إشعار آخر. أنستطيع القول على هذا الصعيد: كل شيء يجري تحضيره للإستغناء عن النفط العربي عندما يحين الوقت من زاوية المصالح الأميركيّة والغربية؟
هذا يجعل السؤال حيويا وضروريا لا سيما بالنسبة لدول الخليج حول ماذا يخبِّئ المستقبل من تغييرات بعد عشرين أو ثلاثين عاما أو ربما أقل خلال عشر سنوات؟

“استراتيجية الأمن القومي – 2015” هي قرينة أخرى أكيدة على بدء عصر جديد في الأفق البعيد نراه بوضوح نحن في العالم العربي دون أن نكون قادرين على تحديده والأهم دون أن نكون جزءا فاعلاً لا متلقّياً فيه.

(النهار)

السابق
ما بعد الانتفاضات العربية: ماذا فعلت النساء؟
التالي
عاصفة ثلجية روسية مساء الغد