ما بين جبل عامل وسوريا (10/3)

..

كان رفيقنا في السيارة رجل فلسطينيّ قال: إنه أحضر بطيخاً فخسر به ثماني جنيهات، وزاد الطين بلَّة أنه صادف في فندق المطران بصيدا رجلاً من أهل كفربيت، وهي مزرعة تابعة لصيدا فصحبه وأنفق عليه ما يحتاجه، فما كان من ذاك إلا أنه حضر لغرفته بغيابه وخلع حقيبته وسرق منها ثماني جنيهاتٍ وفرّ هارباً. وهكذا كان جزاء الإحسان الإساءة، وعلى مثل هذا يصدق القول المشهور (إتق شرَّ من أحسنت إليه). ومررنا في طريقنا على جلّ الدامور الشهير بتوته وحريره، وهو يعادل سقي صيدا في دخله وكذلك صحراء الشويفات وزيتونها أشهر من أن يُعرَّفَ.

في بيروت

بلغنا بيروت بعد الغروب، ونزلنا في (اللوكندة الخديوية) التي نعجب من اسمها بعد سقوط الخديوية. والنزل متقن جداً ونظيف، وهو واقع على المينا فوق محطة السكة الحديدية. وكان الحرّ في بيروت، تلك الليلة، لا يطاق، وقد خسف القمر خسوفاً كاملاً، ومن المعلوم أن أسباب الخسوف حيلولة الأرض بين القمر والشمس ونور القمر مستفاد منها، فأسرعنا إلى صلاة الخسوف وبتنا نسمع إطلاق الرصاص والدقّ على التنك والنحاس مما هو جارٍ من الخرافات والعادات المتَّبعة. وسمعنا خطيب جامع المجيدية ينحي باللائمة في خطبة الجمعة على الذين لم يزالوا أسرى تلك التقاليد التي يتخذها الأجبيّ حجةً على جهلنا وقال: إنه يحمد من المسلم في مثل ذلك المبادرة للصلاة والدعاء فكان لخطابه تأثير في النفوس. وبيروت مدينة تعد الآن باريس سورية وتكاد تكون غربية الوجه واليد واللسان ومع الأزمة الاقتصادية فالبناء والتجدد في بيروت قائم على قدم وساق. وقد ألممنا بتاريخها برحلتنا إلى فلسطين فلا حاجة لإعادته هنا.

الآبونة

مكثنا في بيروت ريثما أتممنا عملنا وقمنا في القطار الخاص وهو ما يسمونه (الآبونة) لأنه قطار يسير في الصيف خاصة لعاليه وصوفر ويشترك به المصطافون.

كان مسير القطار الساعة الخامسة بعد الظهر فمرّ على محلة الأرمن أولئك القوم الذين فرّوا من تركية واحتلوا بلادنا فزاحموا الوطنيين على أعمالهم وفاقوهم في أكثرها وتراهم في مدة قصيرة أصبحوا ذوي ثروة ويسار وحبّذا لو تعلَّم كثير من أبناء وطننا الوطنية والتضامن والاجتهاد منهم وقد كانت المحطة الأولى بعد بيروت الحدث، وبعدها بعبدا مركز متصرفية جبل لبنان. وبعدها الجمهور وهذه الطريق عبارة عن حدائق غاصة بأنواع الأشجار وأكثر شجر الرمان. وبعدها عارية فعاليه وهنا شجر الزيتون والأرز. والمتجول في الجبل يشعر بنشاط سكانه وكثرة عمرانه، وقد بلغنا عاليه الساعة السابعة بعد المغرب أي أنه قطع المسافة في ساعتين وهي في السيارة نصف ساعة لأن القطار يمشي متثاقلاً ولا يهمه الإسراع وركوبه لقاصد النزهة خير من السيارة.

وقد طرقنا ثلاثة فنادق كبرى فلم نجد محلاً لكثرة الازدحام فالتزمنا أن ننام بفندق الشمس بغير سرير. وقد سهرنا في قهوة النجار وهناك بهو كبير للمقامرة ومثله للمخاصرة فدخلنا لننظر بأم العين كيف يقامرون وكيف تتسرب أموال الكثيرين من ضعاف الأحلام لجيب رجل يقال له النجار، فاعترضنا في نصف البهو شاب يدعى الفرد عوده، مانعاً لنا من الدخول بكل غطرسة، ولما أفهمه من معنا أنه يحق للصحفي الدخول زاد قحة قائلاً: لا يدخل لهنا حاكم البلاد نفسه بدون (كارت) فقلنا لا حاجة بنا لنيل هذا الشرف وإنما أردنا المشاهدة لنكتب عن علم وقلنا في نفسنا ما أوقح هؤلاء القوم وما أشد غرورهم بأنفسهم. وقد حُدِّثنا كثيراً عن صرعي القمار: منها أن أحد أبناء بكوات عكار خسر من يومين 750 ليرة سورية. وأن صاحب الدبور خسر مائة إلى غير ذلك مما به خراب البيوت العامرة والقضاء على مستقبل الكثيرين الذين دخلوا لهذا الرجس أغنياء وخرجوا فقراء وخرجنا من هناك آسفين متعجبين كيف ترضى الحكومة بمثل هذه المخازي وهل هذا من التدرب على صالح الأعمال؟! والسير بالأمة إلى الاستقلال؟!

سوق الغرب وعبيه

نهضنا صباح السبت نحن ورفيق لنا لزيارة نسيبنا محمد أفندي الزين مفتش معارف منطقة الفرات في العراق الذي جاء بالرخصة لبلده كيفون وبعد الإقامة عنده ساعة من الزمن زرنا المدرسة التي لم نجد أثراً للنجاح فيها ثم ودعنا قاصدين سوق الغرب فزرنا مدرسة الأميركان وهي فخمة ذات موقع جميل وذهبنا منها لزيارة الأستاذ جبر ضومط وهو يصطاف في بيت له فوق سوق الغرب فأَنِسْنا بأدبه وفضله وأكلنا من باكورة كرمه عنباً شهياً. والأستاذ مُولَهٌ بالبحث في النِّسبة فكان جانب من حديثه في أميركاني وأميركي، وودعناه شاكرين له حسن وفادته وكرم أخلاقه. ثم زرنا صديقنا الأستاذ نسيم الحلو مدير مدرسة الفنون الأميركية في صيدا وصهره حبيب حتي فلقينا من كرم أخلاقهما ما هما جديران به. ثم ركبنا عربة وذهبنا إلى عبيه لزيارة رصيفنا صاحب جريدة الصفا المعروفة بواطنيتها وصحة لغتها وقد زرنا إدارة الجريدة ومقام السيد عبدالله التنوخي وولده عبد الخالق المعظَّمين عند الدروز والسيد عبد الله هذا من آل علم الدين ترى مقامه غاصاً بالزائرين والزائرات وهن أكثر عدداً.

وزرنا معمل راهبات البيزانسون وهو مكان فخم قديم من آثار التنوخيين والمعمل يشتغل أنواع الأقمشة الوطنية على الطريقة العربية والغربية. وعبيه بلدة جميلة متدفقة المياه لكن السير في شوارعها متعب غادرناها لزيارة أمين بك ناصر الدين في كفرمتى ثم عدنا إلى عاليه وواصلنا السفر إلى صوفر في القطار الخاص. وصلنا إلى صوفر ليلاً بعد المرور على محطة بحمدون التي يكثر بها المصطافون وهي بلدة جميلة صحيَّة لابأس بها.

وبعد أن نزلنا في فندق لرجل درزي واسترحنا قليلاً ذهبنا إلى نزل النجار الكبير وهو من أفخم الفنادق وأتقنها، ومن محاسن هذا المنزل أن له فسحة واسعة يضعون بها المقاعد فيجلس من يشاء هناك بدون أن يدفع بارة واحدة فإذا طلب شيئاً دفع ثمنه. وقد رأينا غربي النزل فسحة لطيفة بدأ السيدات والآنسات والشبان والرجال يفدون إليها زرافات ووحدانا، ولما جاء الميعاد أخذت الموسيقى تنغم نغماً افرنجياً فأطللنا لنرى ما يكون، وإذا بالفتيان والفتيات يرقصون وهو المدعو با(لباللو) الذي قرأنا عنه ولم نره، وكنت ترى الفتى يضم الفتاة إلى صدره فيداه على ظهرها وصدره لصدرها وبطنه على بطنها وهما يتخطران جيئة وذهاباً على طريقة خاصة وهو ما يسمونه بالرقص الإفرنجي ويعدّونه من متممات التمدن الحديث فلا يكون بعرفهم من لا يعرفه متمدناً. وأيّ رجل شريف ذي عرض صحيح يرضى أن ترقص ابنته مع شاب أجنبي أمام جمهور كبير من المتفرجين ومهما بلغ الرجل من العفة وبلغت المرأة من العفاف أليس هما من البشر الذين لهم طبائع حيوانية وقوة شهوانية؟ أهذا هو التمدن الذي يريده للشرقيين أو صياؤهم؟ أهذا هو التمدن الذي يريده لنا قسس الأجانب أما والشرف الذي أضاعوه إن عظام أجدادنا تتألم من هذه المخزيات المبكيات والطالعات النازلات فغفراً اللهم غفراً فقد جفّ الضرع وضاق الذرع.

وما عجبي أن النساء ترجلت       ولكن تأنيث الرجال عجاب

وقد سمعت بعد ما عدت إلى النزل بعض الناس يتحدثون ويتألمون من هذه الخلاعة ويقولون لقد أطفأوا الأنوار بعد نصف الليل…

(شؤون جنوبية)

 

 

السابق
السيّد الأمين: المؤسّسات الدينية تنشر الغلوّ والتعصّب‎
التالي
فنان مغربي مهدد من طرف هيفاء وهبي