لا تغيير في قواعد اللعبة

خطاب الرئيس سعد الحريري في ذكرى اغتيال الشهيد رفيق الحريري ورفاقه وشهداء ١٤ آذار لا يعني تغييراً في قواعد اللعبة، فلا خروج لـ»المستقبل» من الحكومة والحوار، كما أنّ «حزب الله» ليس في هذا الوارد أيضاً في خطوة كرد فِعل على كلام الحريري الشديد الوضوح.

قد يكون مصطلح الحوار الأكثر استخداماً وتركيزاً في خطاب الحريري الذي شرح أسبابه الموجبة في هذه المرحلة (حماية لبنان، حاجة إسلامية وضرورة وطنية)، وأكّد على ضرورة مواصلته (نعتقد أنّ الفوائد التي نشأت عن هذا الحوار حتى الآن مناسبة للتأكيد على مواصلته)، ودعا إلى توسيع جدول أعماله بإضافة بند جديد في تعبير عن تمسّكه بهذا الإطار الثنائي المستجِد. (وضع استراتيجية وطنية كفيلة بتوحيد اللبنانيين في مواجهة التطرف).

فمن جهة «المستقبل» لا تغيير في القرار الكبير الذي اتخذ بتأليف حكومة مع «حزب الله» وتطويره وتحصينه عبر الحوار، كما لا تغيير في رؤية «المستقبل» لفكرة لبنان ودوره، هذه الرؤية التي استعرضها الحريري بالتفصيل وتُظهر بوضوح أنّ مساحة الاختلاف مع الحزب أوسع بكثير من مساحة الاتفاق، بل يمكن التأكيد أنّ ما استعرضه كاف للتدليل على وجود رؤيتين متناقضتين بشكل جذري للبنان، وأنّ أقصى ما يمكن الالتقاء حوله هو تثبيت قواعد الاستقرار من دون أي خرق في الملفات الوطنية البنيوية الأساسية.

ولا شك أنّ كلام الحريري سيضعه خصومه في سياق الصراع الأبعد من لبنان، وذلك لسببين:

السبب الأول، لأنه أتى مباشرة بعد استلام القيادة السعودية الجديدة زمام المسؤولية، ولأنه أتى إلى بيروت مباشرة من الرياض، ما سيفسّر بأنه رسالة سعودية غير مباشرة تحمل دلالتين: الدلالة الأولى انّ كل المناخات التي تروّج وتبثّ عن تغيير في سياسة المملكة هو هرطقة. والدلالة الثانية أنّ الحريري كان وسيبقى شريكاً أساسياً للمملكة، وكل كلام عن تعديلات وتغييرات لا يخرج عن سياق الأوهام.

والكلام عن الشراكة ليس من باب التضخيم، بل لأنّ الحريري يجسّد بُعدين بعمله: البعد العربي بإعلاء محور الاعتدال وتعميم ثقافة السلام، والبعد الإسلامي الذي تريد السعودية تظهيره للعالم وتعميمه.

والسبب الثاني، لأنه تقصّدَ في خطابه، الذي قارن فيه وضع لبنان والمنطقة قبل استشهاد رفيق الحريري وبعده، التأكيد بأنه معنيّ بكل شأن عربي من اليمن والبحرين إلى العراق وسوريا وصولاً إلى فلسطين.

ولكنّ اهتمامه هو من باب تثبيت نهائية هذه الكيانات وحفظ استقرارها ودعم دولها والحفاظ على هويتها، وذلك خلافاً لمحور المقاومة الذي يدخل تدخّله في سياق هزّ استقرار تلك الدول وتغيير هويتها وضرب نهائيتها.

وفي موازاة ذلك يخطئ من يعتقد أنّ الحريري بَدَّل أو سيبدِّل في استراتيجيته وسياسته العربية والوطنية، والتباين داخل أروقة ١٤ آذار لم يكن يوماً من باب التشكيك، إنما كان دائماً بسبب التسويات المتتالية التي تشكل ضرراً على المسيرة الاستقلالية، لأنه إذا كان تجنّب العنف والحرب مسألة لا جدال فيها، ولكن في نفس الوقت التنازلات الوطنية المجانية تشرّع أوضاعاً كارثية.

وبالتالي، كان على قوى 14 آذار تقدير اللحظة السياسية من قبيل أنّ إدراكها حاجة الحزب للاستقرار في لبنان، ولَو من منطلقات مختلفة، يتيح لها انتزاع تنازلات جوهرية من الحزب، لا شكلية…

ويبقى السؤال كيف سيتعامل «حزب الله» مع كلام الحريري؟ وفي الإجابة انّ مصلحة «حزب الله» الاستراتيجية تكمن في مواصلة هذا الحوار للأسباب الآتية:

أولاً، لأنّ أولويته ما زالت في سوريا لا في لبنان، وبالتالي قطع الحوار أو تعليقه يعني ارتفاع منسوب التشنّج والتعبئة، ما سيؤدي إلى تعليق عمل الحكومة من الباب السياسي لا الإداري، والعودة إلى الاشتباك الوطني من بابه العريض، الأمر الذي يريد تجنّبه الحزب لعدم التلهّي بأيّ مسألة خارج الأزمة السورية.

ثانياً، لأنه ما زال يخشى من التطرّف السني الذي في حال انهيار الحكومة والحوار يمكن أن يطلّ برأسه مجدداً، ولا قدرة له على مواجهته، فيما شكَّل «المستقبل» دور رأس الحربة في مواجهة هذا التطرف، والحزب في أمسّ الحاجة ليواصل «المستقبل» دوره في هذا المجال.

ثالثاً، لأنّ مواجهة التطرف تتطلب سنياً قوياً لا ضعيفاً، وإلّا كان الحزب استبقى الرئيس نجيب ميقاتي مدى الحياة. وبالتالي، على رغم تظهير الحريري للملفات الخلافية، إلّا أنّ هذه الملفات يعرفها الحزب جيداً، ولا تشكّل جديداً بالنسبة إليه، بل على أساس هذا الوضع دخل في حكومة وحوار مع «المستقبل».

وانطلاقاً من حاجة الحزب لسنّي قوي سَيغضّ النظر عن كلام الحريري الذي يشكل له مصدر إزعاج شكلي فقط، فيما في الواقع والحقيقة تشكل الحكومة والحوار مصدر ارتياح استراتيجي له.

رابعاً، لأنه سيبرّر أمام جمهوره مواصلة الحوار تجاوباً مع رغبة الحريري الذي أبدى تمسّكاً بهذا الحوار.

خامساً، لأنه يدرك انّ الحريري لا يمكن أن يقول أقلّ ممّا قاله في مناسبة استشهاد والده، خصوصاً أنّ الحريري كان صائماً عن الكلام، وهذا الصيام سيستمر بشكل أو بآخر، بل سيَنظر الحزب إلى النصف الملآن من الكوب، حيث نجح الحريري، من خلال سَقفه المرتفع، بتمرير رسالة واضحة لجمهوره بأن لا عودة عن الحوار مع «حزب الله».

(الجمهورية)

السابق
800 مليون دولار وفر من انخفاض النفط
التالي
حيث تلتقي واشنطن والنظام السوري..و«داعش»