أوباما وخامنئي وأفكارهما المُؤسِّسَة

تفصلنا خمسة أسابيع عن انتهاء المهلة التفاوضية بين إيران والدول الست الكبرى حول الملف النووي الإيراني في الرابع والعشرين من آذار المقبل. كلما اقترب الموعد، زادت السخونة السياسية والديبلوماسية في الملف. يرسل أوباما رسائل إلى خامنئي والأخير يرد بالمثل، وتبرز أجنحة الحكم في إيران تمايزاتها حول الصفقة المحتملة، مثلما تظهر المؤسسات الأميركية انحيازاتها حيال الاتفاق النووي الممكن. في كلتا الحالتين المنطقة تترقب؛ فالاتفاق أو عدم الاتفاق سينعكس بشكل عميق على توازناتها الإقليمية.

الأفكار المؤسسة لسلوك أوباما التفاوضي
يواجه الرئيس الأميركي معارضة مؤسسية عارمة لأطروحاته فيما يخص إيران والاتفاق النووي معها، لأسباب ليست فنية أو تقنية، وإنما بضغط متصاعد من اللوبي الإسرائيلي المتحالف مع الأغلبية الجمهورية في الكونغرس. ولا تنحصر معارضة أوباما في الجمهوريين فقط؛ إذ إن السيناتور روبرت مينديز الديموقراطي من ولاية نيو جيرسي أعدّ، بالاشتراك مع السيناتور الجمهوري مارك كيرك من ولاية إلينوي، مشروعاً لحزمة عقوبات جديدة على إيران، في حال انتهت المهلة التفاوضية المقبلة من دون اتفاق. وتزداد الأمور تفاقماً بملاحظة الزيارة المرتقبة لرئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للكونغرس مطلع الشهر المقبل، لشرح موقف دولته من الاتفاق المرتقب مع إيران، وذلك على الضد من رغبة أوباما، وفي إظهار واضح لحجم ومدى النفوذ الإسرائيلي في واشنطن.
يريد أوباما التعامل بشكل براغماتي مع إيران وملفها النووي، تحقيقاً لمصالح أميركا الحيوية في المنطقة ومن ضمنها أمن إسرائيل. على ذلك يعتقد أوباما أن تقليص البرنامج النووي الإيراني إلى أدنى حد ممكن، مع وضعه تحت الرقابة الدائمة، وتقليص عدد أجهزة الطرد المركزي الإيرانية، وإرسال مخزون اليورانيوم الإيراني إلى روسيا، سيضمن عدم وصول إيران إلى سلاح ذري. ولا تقتصر الإجراءات الرقابية على ما سبق ذكره فقط، إنما تمتد أيضاً إلى قطع طريق إيران للوصول إلى القنبلة عبر المياه الثقيلة (تحويل مفاعل «أراك» إلى أغراض أخرى)، وهي مكاسب تفاوضية ممتدة إلى مسافة زمنية عمرها خمسة عشر عاماً – بموجب مشروع الاتفاق – ستمنع إيران بالفعل من التحول إلى قوة نووية عسكرية خلال تلك الفترة. ولا تفوت ملاحظة أن إيران لن يمكنها التحول إلى قوة نووية عسكرية، إلا بالتملص من الرقابة والاشتراطات والعودة إلى التخصيب بمستويات مرتفعة تصل إلى سنة، وهو ما سيعطي أي إدارة أميركية مقبلة فرصة كافية للتعامل مع إيران عسكرياً. في المقابل، يرى المعارضون لأوباما أن إلغاء البرنامج النووي الإيراني هو الوسيلة الناجحة لحل مشكلة الملف النووي الإيراني من أساسها، ويرون بالتالي في أي اتفاق أو صفقة أمراً خاطئاً. تكمن مشكلة معارضي أوباما في أن إيران امتلكت بالفعل دورة الوقود النووي الكاملة، حتى قبل أن يدخل أوباما البيت الأبيض. كما أن إيران راكمت من المعارف التقنية اللازمة لعملية التخصيب، إذ تدور آلاف من أجهزة الطرد المركزي في المنشآت النووية الإيرانية. لذلك لا يمكن قصف المعارف النووية الإيرانية في عقول التقنيين والمهندسين، أو إرجاع المكاسب الإيرانية على الأرض إلى الوراء إلا بضربة عسكرية. بدورها تعتقد غالبية التقديرات الأميركية أن ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية لن تنهي البرنامج النووي الايراني، وانما سترجعه بضعة سنوات إلى الوراء على أقصى تقدير. المشكلة الحقيقية التي يواجهها أوباما أنه لا يستطيع – وربما لا يريد – رفع العقوبات المفروضة على إيران بالكامل عند الوصول إلى اتفاق، وهو ما يهدد فرص الاتفاق في النجاح، لأن المرشد الإيراني يشترط رفعاً كاملاً للعقوبات عند إبرام الاتفاق. لا يتبق أمام أوباما إذاً إلا مواجهة معارضيه في الداخل، وتخيير طهران بين مشروعه للاتفاق من دون رفع كامل للعقوبات أو فتح الباب للفشل، وما يعنيه ذلك الفشل من انتصار لأنصار الحرب في أميركا.

الأفكار المؤسسة لسلوك خامنئي التفاوضي
يعلم مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي أن مشروع الاتفاق النووي هو فرصته ليلعب بورقة الملف النووي في مقابل رفع كامل العقوبات الاقتصادية على بلاده، ومن المفيد في هذا السياق ملاحظة أن العقوبات فرضت على إيران قبل وجود برنامج نووي بغرض تغيير سلوكها في المنطقة. أنفقت إيران عشرات المليارات من الدولارات على برنامجها النووي، وتحملت خسائر أخرى بالمليارات أيضاً من جراء العقوبات الإضافية التي فرضت عليها بسبب برنامجها النووي، ودفعت رأسمالاً سياسياً باهظاً تمثل في عزلتها الدولية لسنوات طوال. هذه الأثمان السياسية والاقتصادية الكبرى، تستأهل من منظور خامنئي ثمناً مناسباً يتوازى مع تكلفتها إن لم يزد عليها. وإذا كان أوباما لا يضمن رفعاً كاملاً للعقوبات عند توقيع الاتفاق، فمن المستبعد أن يقوم أي رئيس أميركي مقبل برفعها.
من ناحية أخرى، يعلم المرشد الإيراني بالضرورة أن أسباب النفوذ الإيراني في المنطقة لا علاقة لها في الواقع بالملف النووي الإيراني، بل غزو العراق واحتلاله العام 2003، وانهيار الدول العربية في المشرق وتراجع القوة العربية الشاملة في الميزان الإقليمي؛ الأمر الذي سمح لإيران بتعبئة الفراغ في المنطقة. لذلك يعد رفع العقوبات الاقتصادية وتطبيع العلاقات مع واشنطن والخروج من العزلة الدولية مناسباً لإطلاق يد إيران أكثر في المنطقة، مع ما يتطلبه ذلك من تغيير للخطاب الإيراني من «مواجهة المستكبرين» إلى «مواجهة التكفيريين»، وهو ثمن زهيد يمكن تقديمه بسهولة. لذلك يريد خامنئي للمفاوضات أن تنجح. في المقابل، فللمفاوضات النووية محاذير تتواكب مع فوائدها في الحسابات الإيرانية، لأن عدم رفع العقوبات بالتوازي مع ضغط أميركي – إسرائيلي – تركي – سعودي بغرض تقليص نفوذ إيران يبدو خطراً ماثلاً في المخيلة الإستراتيجية الإيرانية. ومثلما تعلم إيران أنها مددت حضورها الإقليمي وأن مصالحها تتقاطع إلى حد كبير مع المصالح الأميركية في المنطقة، فإنها تعلم أيضاً أنه ما من قوة إقليمية أو دولة في المنطقة ترغب في رؤية الاتفاق النووي وقد نجح، وليس دولة الاحتلال الإسرائيلي فقط. باختصار تعلم طهران أنها بغضّ النظر عن إبرام اتفاق نووي من عدمه، فإن اصطفافاً إقليمياً قد ينشأ في مواجهتها، وأن ما يمنع هذا الاصطفاف عوامل داخلية في أقطابه، وعوامل عدم حماس الإدارة الأميركية له، ومن شأن فشل الاتفاق أن يحول نظرة الإدارة الأميركية تجاه هكذا اصطفاف. من ناحية ثالثة، أراد خبراء الأمن القومي الإيراني دوماً مواجهة خصومهم في ساحات بعيدة عن جغرافيا إيران، عارفين بتضاريس ومسالك ومسارب تلك الساحات. لذلك فإن تحدي النفوذ الإقليمي الإيراني في المشرق العربي بالتوازي مع إبقاء العقوبات الاقتصادية أو جزء كبير منها على إيران، قد يفتح الباب أمام خطر تحدي السلطة داخل إيران نفسها لاحقاً، وهو سبب إضافي كاف من منظور خامنـــئي لرفض أي اتفاق نووي يهدد نفوذ ايران الإقليمي باعتباره الدرع الواقي لبقاء سلطته في طهران.

الخلاصة
لا تريد إيران الراغبة في اتمام الاتفاق النووي، بشرط رفع العقوبات عنها، أن تبدو في مظهر المتعنّت لتفويت الفرصة على خصومها في الكونغرس للتضييق على إيران؛ وصولاً إلى تصعيد عسكري ضدها في وقت لاحق. لذلك كانت خطابات المرشد الإيراني متتالية لتأييد الفريق التفاوضي الإيراني، وللرد على أوباما وملاقاته في منتصف الطريق. في المقابل، يريد أوباما إبرام اتفاق مع إيران في ضوء امكاناته الفعلية، أي رفع بعض العقوبات بقرارات رئاسية وإبقاء البعض الأخر الذي يتطلب موافقة الكونغرس على رفعها في مكانها. وكلا الطرفين يريد الإفادة من التوازنات الإقليمية البازغة في المنطقة، بما يحقق الفائدة المشتركة لكل من واشنطن وطهران. تقنياً لا يوجد ما يمنع اتفاقاً بين الطرفين، لكن السياق الإقليمي الذي سيخلقه مثل هذا الاتفاق سيبقى محدداً للفشل أو النجاح. شخصياً لا اعتقد بإمكانية نجاح اتفاق يشمل رفعاً كاملاً للعقوبات المفروضة على إيران، لأن ذلك يتخطى موازين القوى داخل الولايات المتحدة الأميركية.

(السفير)

السابق
كيف تُنقل الأفكار المتشددة الى الغرب؟
التالي
موظفو مستشفى الحريري اغلقوا مدخل الطوارئ: لاقرار حقوقنا من دون حصر