مقاومة داعش شأن سياسي ثم ديني وفي آخر الأمر عسكري

عمليات التهجير الجماعية التي قام بها «داعش»، الصيف الماضي، ضد الأقليات المسيحية والأزيدية والكردية، حظيت بردّ فعل متواضع جداً، قياساً إلى تلك التي تلت عملية حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً.

يمكن إعطاء تفسير أولي لهذا التمييز الطائفي والإثني، الفردي والجماعي، بين طيار عسكري، وبين الآلاف من البشر الذين قتلوا وهجروا واستعبدوا واغتصبوا: وقوام هذا التفسير ان الإخراج السينمائي المتقن لعملية حرق الطيار كان له الوقع الصادم، المطلوب ربما، مقابل اقتصار جريمة اقتلاع الأقليات من موطنها على الصور القليلة، العفوية، أو البدائية.

ويمكن التخمين أيضا بأن «داعش» ربما كان وقتها منهمكاً في غزو شمال العراق، وفي استئصال غير المرغوبين من بين أهلها الأصليين، مقابل «استقراره»، بعد ذلك، على فوق أراض عراقية وسورية؛ استقرار سوف يمكّنها من الإعداد المهني لشريط إعدام الكساسبة حياً. يمكن التفرع من هذه المسألة أيضاً وأيضاً، بأن «داعش» يوم هجومه الأول على الموصل لم يكن قد أنضج بعد سياسته الإعلامية، وانه بعدما توصل إلى درجة معينة من البلوغ اللوجستي، ذبح وصلب ورجم، وصوّر بعض «عملياته» هذه في شرائط… ولكنه لم يكن قد طوّر سياسته هذه إلى الحدّ الذي أدركه مع الكساسبة. يمكن التخمين مطولاً حول نوايا الدواعش، ولكن أمراً واحداً مؤكداً في هذه الحالة بالذات، هو انه في عملية الحرق، كما في عملية ذبح الرهائن الأجانب، الأفراد، كانوا يكيلون بمكيالين: للأجانب والطيار معاملة سينمائية خاصة، بسبب قيمة الأجانب وقيمة الطيار، ولآلاف المسيحيين والأيزيديين والكرد ازدراء سينمائي…

هذا من جهة «داعش». أما من جهة ردة فعل الأنظمة على حرق الكساسبة، بالمقارنة مع عشرات الآلاف الذين قضوا وتشردوا و… فلا يمكن وصفها إلا برد فعل تمييزي صاف، بدت الألوف التائهة على وجه الأرض، بالنسبة لها، وكأنها لمام مقارنة بطيار واحد، برهينة أو رهينتين.

فهل الأنظمة أصبحت بدورها عرضة لتأثير الصورة السينمائية أكثر من الوقائع التي تأتيها عنها تقارير يومية ومفصلة؟ أم انها، مثل «داعش»، تميز بين عسكري مسلم، ومواطنين بسطاء غير مسلمين؟ أم انها مثل القبائل، دم النسب وحده عندها هو الغالب؟ أم انها تريد اختراع مطلب شعبي بالاقتصاص من هذه الجريمة وحسب، فيكون لها عشرات التبريرات للقيام بالإجراءات الأمنية التي تتمناها وتعزّز سلطاتها وتستعيد شرعيتها على غرار النظام السوري، الذي كلما ذاعت عملية وحشية داعشية، عاد وقدم أوراق اعتماده إلى الائتلاف الدولي المحارب للإرهاب؟

قد تجد شيئاً من الجواب على هذه التساؤلات، في رد الفعل الأول التي اعقبت جريمة الكساسبة: النظام الأردني لم يجد شيئاً يعمله بعيد وقوعها، إلا تنفيذ أحكام الإعدام بسجينة وسجين إرهابيين يقبعان منذ سنوات خلف القضبان. طبعاً ليس وارداً النقاش هنا عن أحقية أي سلطات في العالم في تنفيذ الاعدام، مع ان الغاء الاعدام صار بداهة بالنسبة للمجتمعات الغربية، التي تقود حكوماتها ائتلاف الحرب ضد الارهاب. ولكن تنفيذ الحكم هكذا، كرد ثأري أوّلي على جريمة الكساسبة يبين أن السجناء إنما كانوا مجرد رهائن، مادة تفاوضية مع الإرهابيين، مادة ثمينة جداً… وعندما يفقد أولئك السجناء قيمتهم التفاوضية، يُعدمون، كما يُعدم رهائن «داعش»، إثر فشل يناظره. وهذه إشارة الى أن «داعش» يتعامل مع عقليات تشبه عقليته.

شيخ الازهر، الإمام الاكبر أحمد الطيب، قام بأمر مماثل: استاء بشدة من جريمة الكساسبة، ولكنه عبر عن انتمائه إلى المجال الفكري الواحد مع منفذيها، عندما أعلن أن العقوبة التي «أوردها القرآن الكريم لهؤلاء البغاة المفسدين في الأرض الذين يحاربون الله ورسوله» هي: «أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف»، ليس أقل من ذلك…

وهذه الأحكام هي برهان على اننا ما زلنا ننتمي الى العالم الفكري الواحد، نحن و»داعش»: لنا قراءتنا الواحدة لعلاقة البشر ببعضهم، للقوانين التي يفترض ان تضبطهم، وجلها قائم على عقوبات جسدية وحشية، على الثأر الذي لا نهاية ولا بداية له، على تلك الرؤية البدائية للإنسان، المخالفة تماما لرؤية قادة الحرب ضد الارهاب الدوليين؛ الرؤية المعلنة على الأقل. وهذه على كل حال واحدة من تناقضات هذا الائتلاف، حيث تلتقي العقليات المتحالفة المنتمية الى عصور مختلفة في جبهة حربية واحدة؛ وهذه ربما احدى نقاط ضعف حربه على الإرهاب، أيضاً.

لكن هذه النقاط ليست الوحيدة المشتركة بيننا وبين «داعش». الآن، وبعدما تجاوز هذا الأخير خطوطاً حمراً كانت ربما مرسومة له، أو متوقعة منه، انفرجت بعض الأسارير وفكّت الألسنة، لينكشف قليل من المستور: ليس الضباط البعثيون العراقيون وحدهم هم الذين يلتحقون بـ»داعش»، فيخططون لهجماته ويقودون تنفيذها. الآن، خرج الى العلن التحاق عسكريين آخرين من الرتب المختلفة في الصفوف والقيادات الداعشية: عسكر أردنيين وسوريين وجزائريين وأتراك وليبيين، وربما أيضا مصريين وتونسيين.

بعد النظام الديني، أصبح لـ»داعش» موطئ قدم في النظام العسكري. هذا مع العلم ان المعركة العسكرية التي يخوضها «داعش» هي ضد الجيوش النظامية أو شبه النظامية. أي أنه يخاصم العسكر، ولكنه يغريهم، ويخيفهم في آن؛ يروي جنود أتراك يعملون في حماية الحدود التركية السورية، انهم عاجزون عن تطبيق قرار الحكومة الأخير بوقف تسلّل الجهاديين الى الأراضي السورية، بعد جريمة «شارلي إيبدو»… عاجزون عن ذلك، لأنهم «خائفون» من «داعش»، من انتقامه منهم بواسطة فرد من شبكة عملائه في الداخل التركي.

كل هذه «الاكتشافات» رفعت نبرة الكلام عن «المسؤوليات»: والنتيجة حتى الآن متعادلة، اذ ما من خصم لطرف إلا ويرى انه هذا الطرف مسؤول عن ولادة «داعش» وعن فظاعاته. مع انه من الواضح حتى الآن ان بداية «داعش» كانت مثل بداية «طالبان» و»حماس». كثيرون كانوا دعموا واحدا من هذين التنظيمين الأصوليين، غضوا الطرف عنه أو مولوه، لأنه بديناميكيته، هو قادر على هزّ الخصم أو إرهابه أو إفشال مشاريعه الخ… أو هكذا كان الاعتقاد. «طالبان» لأنها كانت تحارب السوفيات، و»حماس» لأنها كانت تحارب ياسر عرفات و»حزب الله» لأنه «يقاوم» إسرائيل. وعندما كبر فرانكشتاين، وصار يهدد خالقه، تبدلت المعادلة، وصار وحشاً ضارياً توجب محاربته.

بعد سباحة «داعش» في غمار البحر نفسه الذي تتبلل فيه المؤسستان الدينية والعسكرية، جاء دعمه الروحي من السلطات السياسية، ليطرح مجدداً المسألة اياها، وكأننا ندور حول النقطة نفسها، رغم فشل الثورات وفظاعات ما لحقها من وقائع: أي ضرورة البحث في إصلاح المؤسسات الثلاث الدينية والسياسية والعسكرية. فكما يتبين لنا يوماً بعد آخر، ان الحرب العسكرية الدولية على «داعش»، المتشوشة والمتخبطة على كل حال، لن تخلصنا منه. وهي في أفضل أحوالها، لن تقتل فكر «داعش»، وانماط قيمه وتوجهاته، بل قد تؤجّجه. هي الحرب بإصلاح المؤسسات الثلاث، تنتهي بالعسكري وتبدأ بالسياسي ثم الديني؛ وليس العكس، كما هو حاصل راهناً.
(نوافذ)

السابق
حزب الله يصنّف بعض جرود بعلبك مناطق عسكرية
التالي
لينا الحسن وجنى الحسن ظاهرتان روائيتان شاميتان في الطليعة