مابين جبل عامل وسوريا(10/1)

عام 1924 كتب الشيخ أحمد عارف الزين في مجلته “العرفان” الصادرة منذ العام 1909 بعنوان بريدي هو: “صيدا – سوريا” حيث مكتبها ومطبعتها… كتب وقائع رحلة قام بها الى مناطق اخرى من جبل لبنان وسوريا مرورا ببيروت ودمشق تحت العنوان اللافت، او الذي سيصبح لافتاً، التالي: بين جبل عامل وجبال العلويين.

سيستمر هذا العنوان متصدرا الحلقات الخمس التي ستستغرقها سلسلة المقالات على مدى خمسة اعداد من المجلة تشكل نمطا من ادب الرحلات، فيسلك الشيخ – “الزميل” (وهو خال والدي) طريق صيدا بيروت عاليه كيفون دمشق زحلة بعلبك حمص حماه سَلَمية ويعود الى طرابلس ليدخل من هناك برفقة شاب سيصبح شاعرا سوريا وعربيا شهيرا تحت اسم: بدوي الجبل، داخل اراضي “حكومة العلويين” التي كانت يومها احدى اربع دويلات (مع “لبنان الكبير” خمس دويلات) انشأتها سلطات الانتداب الفرنسي في سوريا. وهكذا انطلاقا من حدود النهر الكبير الجنوبي، الحدود الحالية السورية اللبنانية، سيزور طرطوس وبانياس واللاذقية وقرى عديدة في الجبل المطل عليها حيث يلتقي عددا من الادباء والزعماء و الوجهاء والمشايخ ليعود عبر الساحل الى صيدا.

في هذه الرحلة “بين جبل عامل وجبال العلويين” يخصص الشيخ أحمد عارف الزين حلقة كاملة لدمشق يظهر فيها شغفه باجوائها الاجتماعية والثقافية والحياتية ويلتقي بالعديد من وجوهها وبينهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندركما يسجل ملاحظات شجاعة وطريفة في بعض الاماكن التي يعبرها. في عاليه يحاول الدخول الى صالة القمار في احد مقاهيها لمشاهدة ما يجري فيمنعه مدير الصالة وعندما احتج بأنه صحافي وله الحق بذلك، يخبرنا بأن المدير قال له بحزم ان “حاكم البلاد” نفسه لا يستطيع الدخول الى هذه الصالة ! قد يكون الشيخ نسي ان العمامة ولو الملطَفة بطربوش على رأسه تجعل قرار منعه مفهوما وربما مقبولا بمعزل عن نياته الاصلاحية كشيخ عصري والتي تظهر في نقده الشديد للمآسي التي يؤدي اليها القمار والتي يروي بعضها مما سمعه في ردهات عاليه كحالة “احد ابناء بكوات عكار” او كصاحب احدى المجلات (يسميها) وخسارة كل منهما لثروة في ليلة واحدة. فمن أين لمدير الصالة ان يعرف في تلك اللحظة العابرة ان هذا المعمم ملم باللغات الفرنسية والتركية والفارسية وانه استقدم عام 1910 مطبعة حديثة جاهزة من المانيا. بل كيف سيعرف ان “حاكم البلاد” السابق جمال باشا سجنه في عاليه بعد اعتقاله عام 1916 في صيدا خلال اجتماع سري في المطبعة نفسها مع نخبة صيداوية وعاملية وكان يشارك فيه عبد الكريم الخليل الذي سيعدم لاحقا كما هو معروف مع المجموعة الشهيرة فيما سيكون الشيخ عارف بين المجموعة المخلى سبيلها.

والشيخ عارف المار في طريقه الى دمشق ثم الى “جبال العلويين” ذلك العام 1924 عبر حواضر غاية في الانفتاح الاجتماعي في جبل لبنان سيصف حفلة رقص اوروبي في “فندق النجار الكبير” في صوفر عندما رأى “غربي النزل فسحة لطيفة بدأ السيدات و الآنسات والشبان والرجال يفدون اليها زرافات ووحدانا ولما جاء الميعاد أخذت الموسيقى تنغم نغما افرنجيا فأطللنا لنرى ما يكون واذا بالفتيان والفتيات يرقصون…وكنت ترى الفتى يضم الفتاة الى صدره فيداه على ظهرها وصدره لصدرها وبطنه على بطنها وهما يتخطران جيئة وذهابا…”.

من الواضح ان الشيخ عارف سبقته مجلته “العرفان” شهرة وانتشارا الى العديد من المناطق ولاسيما الى جبال العلويين. لكن معنى كلمة “انتشار” يتطلب بعض الشرح في ذلك الزمن. كانت مجلة شهرية توزع بريديا في مناطق من لبنان وسوريا والعراق اساسا.ولهذا فان قراءها كانوا في بيئات – خصوصا الريفية – ذات عدد محدود من المتعلمين بسبب الأمية السائدة، ولهذا ايضا كان انتشارها شبه حصري في محيط الوجهاء والبيئات الدينية في سوريا والعراق مثل البيئة التي ينتمي اليها الشيخ سليمان الاحمد “وكيل” العرفان في جبال العلويين او احد الاساسيين بين “وكلائها” (كما كان يُسمّى أصدقاء المجلة) وهو الوجيه ذو المقام الديني والتأثير المهم في محيطه “الذي له فضل لا يجحد على العرفان” والذي كلف نجله الشاب محمد (بدوي الجبل) بمرافقة صاحب “العرفان” حتى “سلاطه” القرية التي يقيم فيها قرب “القرداحة”. وعن بعض من سيلتقي بهم الشيخ عارف في المدن والقرى التابعة لـِ”حكومة العلويين” يخبرنا انه “سبق وزارنا في صيدا قبل الحرب”.

على الرغم من هذه العلاقات والضيافة بل والثناء الذي يبديه الشيخ عارف تجاه مضيفيه اينما حلّ، فهو في تقريره عن جولته لا يجد حرجا في نقل ما يقال عن عقائد العلويين بل هو يناقش مع بعضهم في احدى السهرات المديدة عقيدة “الاستنساخ” التي يقول انهم يستندون فيها الى بعض ما ورد في القرآن. وهو يشدد في الوقت نفسه على اهتمام مشايخهم بربط مذهبهم بالمذهب الجعفري لكنه يلاحظ خلو مكتباتهم من كتب دينية غير القرآن دون ان تفوته الاشارة الى تأثير العزلة الطويلة في الجبال على اوضاعهم لا سيما الثقافية. وعلى ما يبدو فان اقامة الفرنسيين لـ”حكومة العلويين” وما استتبع ذلك من تعيين قضاة شرع ومفتين خاصين بالعلويين قد جعل الحاجة الى الربط بالفقه الجعفري اكثر الحاحا لديهم مع ان الشيخ عارف يأخذ على القضاة “محدودية” معارف اكثرهم لكنه يسجل ان احكامهم تنحصر بـ”الزواج والطلاق”. وهو ايضا يذكر انهم لا يقومون بأداء مناسك الحج ولا بزيارة أئمة اهل البيت في العراق “لكن فرقة منهم في جهات صهيون (منطقة في جبال العلويين) يصومون ويصلون”.

وحسب تقرير الشيخ عارف فان عدد السكان في “دولة العلويين” التي تمتد على مساحة 6500 كلم مربع يفصلها شمالا “جسر الشغور” عن “حكومة حلب” يبلغ 261000 بينهم 153400 علوي “ويجيء بعدهم السنيون والمسيحيون والاسماعيليون”.

ويسجل الشيخ عارف مدى النفوذ الكبير لزعماء العلويين من الاقطاعيين على جمهورهم واصفا اياه بـ”التسلط المدهش” ويقول: “حدثنا بعضهم ان احد زعماء العلويين علم بقدوم رجل من اميركا لم يتقدم لزيارته ولثم أنامله الكريمة لأن الرجل آتٍ من بلاد الحرية فلم يرَ لهذه التشريفات من مسوغ لكن حضرة الزعيم ارسل رجاله فضربوه وقادوه صاغرا ولم ينجُ الا بفدية لا تقل عن مائتي ليرة”… وسرعان ما سيسجل ايضا: “ومع ذلك فان هؤلاء الزعماء يخافون من الحكومة مخافة شديدة”.

(يتبع)

(شؤون جنوبية)

 

 

السابق
تقدم في «معركة حزب الله» في الجنوب السوري
التالي
النائب خالد الضاهر أرجع تقديمات «المستقبل»