تلامذة السلطان

مساء السبت تصدَّرت نشرة الثامنة على ام. تي. في. الانباء التالية: مطحنة العظام في الكرنتينا لم تتوقف برغم قرار الإغلاق. معامل شكّا لا تزال تمطر غبار الاسمنت على جميع الجوار. المسلخ مُغلق. سوق السمك يُعاد تأهيله. إغلاق مصنع معلبات آخر في تعنايل بسبب ما فيه من… وقد ذكرت النشرة ماذا في المعمل.

منذ اسابيع يتفرج اللبنانيون على كشف إرهاب صامت ينتشر بينهم منذ 20 عاماً على الأقل. صور لمطاعم لا يُمكن أن تراها إلاّ في احياء الصين الداخلية. يضبط مفتِّشو وزارة الصحة هذه المشاهد التي لا توصف، ويكون رد فعل الناس واحداً: هل من الضروري هذا “الاستعراض”؟
لم يرَ أحد في ثورة وائل أبو فاعور على قمامة النفوس الجشعة سوى أنها عمل استعراضي. رجل يحاول أن يدفع عن مواطنيه حياة القذارة والتلوّث والمرض، ومواطنوه يعترضون: هل من الضروري فضح الجريمة والاساءة إلى سُمعة المجرم؟ صار رالف نادر، اشهر محامي استهلاك في العالم، في التاريخ، لأنه كشف لمواطنيه الاميركيين نواقص السيارات وفساد اللحوم. حاربه التجّار والمافيات والكارتيل الصناعي، ووقف خلفه الناس، وسمّاه البعض “مسيح المستهلكين”، وفي النهاية توصَّل إلى أن يكون المرشح الثالث للرئاسة، مستقلا ضد مرشحي الحزبين.
جميع اشكال التربية تبدأ في البيت. التربية الاخلاقية، والتربية المدنية، والتربية البيئية وسواها. الذي يرمي الزجاجة الفارغة من نافذة السيارة على الاوتوستراد، تعلم من والده أن القذارة تحدٍ، وإن كل ما هو خارج داره، بشاعته حلال وتدميره سلوى. إرهاب سائقي السيارات في الشوارع يقيَّد على أنه “جنون”، لا جريمة ولا اعتداء ولا ترهيب. من يدفع ضبط المخالفة “جبان”، أو “مقطوع”. الشجاعة هي الافتراء. والمطالبة بالقانون “فذلكة”.
حاول أن تلاحظ سلوك الناس عند الإشارة الضوئية في أي وقت، في أي مكان: رجال ونساء يتدافعون في عدوانيّة مرضيّة نحو لا مكان. سلوك جماعي عمومي مثل الاعراض التي تصيب الجماهير مرة واحدة. القيادة في لبنان ظاهرة تخلُّف قومي، مثلها في كراتشي أو لاهور: ما من تصرُّف له سبب واضح: لا الزمور المتكرر، ولا الهياج على اللون الاحمر مثل ثيران اسبانيا، ولا محاولة السيارات المخلَّعة أن تسابق السيارات الجديدة. الغيرة لا يمكن أن تشكل “سيلندر” اضافياً. ليس على حد معرفتي.
وعلى سيرة المعرفة، فأنا أعرف أن أحداً لا يطيق الكتابة عن القضايا الصغيرة، كالحياة والموت والصحة والمرض. وعلى هذه السيرة أيضاً قرأت في متعة كتاب “على سيرة النوم” للدكتور فلاح أبو جودة، يمتدح فيه حب القيلولة، كما كتب برتراند راسل “في مديح الخمول”.
وقد عرفني صديق من صيدا مرة إلى مسؤول حكومي من عائلة “النوام” فكان ردي: “لا لزوم للتعرف. من العيلة”.
كنت أتوقع أن يجمع وائل أبو فاعور خلفه أكبر حزب في لبنان. لكن اللبنانيين غاضبون منه. أفسد عليهم موسم السياحة الذي كان قد ضمن نجاحه “الجناح العسكري” في عائلة المقداد. لو كان أبو فاعور من خلفية سياسية يتيمة لاتُّهم بالعمالة. لكنه اتُّهم بما هو اكبر منها: مؤامرة لصرف الانظار عن الخلو الرئاسي. وهناك شهود، وزير السياحة ووزير الاقتصاد والمصادر.
كان كمال جنبلاط مأخوذاً باصول السلوك البشري. سخر منه سلاطين السياسة وهو يكتب للناس عن “ادب الحياة” وفوائد القمح، ودعا كلاً منا إلى أن يزرع بضع سنابل على شرفة منزله. وضحكنا من سعيد عقل قبل 50 عاماً حين كتب أن ليتر المياه سوف يصبح يوماً أغلى من ليتر النفط. لاحظ كيف يُطلقْ اللبناني بوق سيارته عندما يمر قرب مستشفى وتطالعه لوحة كتب عليها: “مستشفى. الرجاء عدم الزمور”. لاحظه كيف يسابق سيارة اسعاف تحمل مريضاً إلى الطوارئ، وكأن مهمتها أن تفتح أمامه الطريق. ما هو شعورك أمام هذا المشهد الذي يتكرر أمامك على الدوام؟ من أي بيوت جاؤوا اولئك الذين يحتقرون مهنة الاسعاف والخلاص؟
عندما تحتقر القانون في انتخابات الرئاسة، تحتقره في رمي الزجاج الفارغ، وفي تعليب الجراثيم، وفي الدفاع عن اقتلاع 51 الف شجرة. قال نائب الاقتلاع بالحرف: “يؤدي مشروع السد إلى قلع 51 الف شجرة فقط”. هذا في سويسرا الشرق، أما في سويسرا الأولى، فلا يمكن اقتلاع شجرة في المدينة إلا باستفتاء وطني، وليس فقط في الكانتون المعني. معاذ الله أنني اقارن. وإنما فقط على سيرة الشجر والسمك والمربيات واللحوم والدجاج والسكر والخبز، وباقي الاشياء التافهة في الحياة.
كان في نشرة ام. تي. في. مساء السبت خبر آخر عن محمية بنتاعل في بلاد جبيل. في احد مشاهد زياد الرحباني، يفاخر والد شكيب بما فعله ابنه بمعلمته في المدرسة، مسح كوعها ومحاها: معلّمة؟ “بتقول كان في معلمة”. محميَّة؟ بتقول كان في محميّة. بيئة؟ بتقول كان فيه بيئة. بلد؟
كل ما ذكرنا لا يشكل سوى مسحة من الخراب وعناصر الزوال. كل واحد منا يخط بيده حرفاً في الهدم. مشهد التسابق الوحشي عند اشارات الضوء يدل أننا نتراكض نحو معلف، ولسنا أناساً في مدينة. المدينة التي تخرج فيها التظاهرات وتقام الاعتصامات ولا يخرج مواطن واحد ليعترض على قرار وزير “الثقافة” بردم مدرسة الحقوق الرومانية في وسطها الجميل. بلى. خرج عليه جميع وزراء الثقافة السابقين، وبينهم تمام سلام، وقد عاملهم كما عامل تراث روما، كما نعامل المياه والكهرباء والرغيف والمستشفيات وسيارة الاسعاف. كما ترتفع اسماء الجامعات الجديدة في الاحياء إلى جانب الدكاكين والبقّالين.
الدولة مسبحة. لا يمكن أن تفرط من فوق وتبقى معقودة من الوسط… والوطن رابط ثقافي، لا يمكن أن يتحول أهله إلى متكارهين وكارهين ومتعالين ويظل وطناً. عندها يتحول إلى ما نحن عليه: مساحة بلا حدود وبلا مركز وبلا قانون، وناس يتسابقون عند الاشارات الضوئية كأنهم في اولمبياد العبث والفراغ واللاشيء.
لذلك، عندما يظهر رجل ليطبق أبسط القوانين، يبدو غريباً ومريباً. لماذا لا يتركنا في المستنقع؟ ولماذا النظافة اليوم ما دام كل شيء سوف يعود غداً إلى ما كان، لأن أبو فاعور يتحدى قانون الحماية والتزلم، الذي هو أقوى من قانون الجاذبية؟
من شدة الاهتراء والتفكك أصبحنا في حاجة إلى “خطة” في ما كانت تطبّقه فرقة صغيرة من الدرك. خطة أمنيّة للسجون وحماتها. وخطة امنّية لبلاد خطف السيارات، التي صارت بلاد خطف الناس. وخطة امنّية لتبليغ مذكرة إلى متهم صادرة في حقه عشرون مذكرة، حداً ادنى.
الرئيس القوي هو الرئيس الكلّي. هو من يلم البلد ويحتضن ايتام القانون. من يعيد تذكير اللبنانيين بأنهم كانوا، ذات زمن، تحت قانون واحد، وعلم واحد، وحدود واحدة، ولم يكونوا يرون في الاستقلال عيباً، وفي السيادة إهانة، وفي العز الوطني نقيضاً للاعتزاز القومي.
ما من أحد يعرف مدى أهمية الاتفاق على نزع الشعارات السامة، إذا لم يكن قد رأى شيئاً منها. يوم كان الرئيس سليم الحص في الحكومة ذهبت أزوره احدى امسيات رمضان في داره المتواضعة. قلت له: “ما هذه اليافطات المرعبة على الطريق”؟ قال: “من أي طريق جئت؟” ولما اخبرته، قال: “حاول ان تعود من الطريق الموازية، لأنك ستجد أن هذه اليافطات مُطَمئِنة وملاطفة”.
يفهم المرء ألاّ نتفق على التاريخ والاستقلال والضوء الاحمر، ولكن هل يمكن أن نختلف ايضاً على النظافة؟ أذكر من طفولتي أن الهررة كانت تمضي النهار في تنظيف نفسها. ولم تكن ترمي الزجاجات الفارغة على الاوتوستراد، بل تذهب بها إلى ابعد مكان ممكن، خجلى من العيون، مستحية بفوائضها.
يدور بنا الزمن على دورتين مختلفتين للأرض والحياة والرؤية. العام 1896، عهد “السلطان عبد الحميد المتألق إلى الأبد” صمم المهندس يوسف افتيموس، برجاً قرب السرايا عليه ساعتان، واحدة بارقام عربية وأخرى”للفرنجة” بارقام لاتينية، مختصراً السياسة التي عمل بها جميع السلاطين: فرِّق تسُد.

(النهار)

السابق
لبنان في المرتبة 12 في «سويس ليكس»
التالي
الجيش يوقف 830 شخصاً من جنسيات مختلفة