إلى صديقي زياد .. زياد ابن أبيه

رسالة
هذه رسالة مفتوحة إلى صديق، فيها تراجع عن ظلم ألحق به. إنه يوم الإعتراف، الإعتراف بالخطأ، كم كان الإعتراف فضيلة لو أننا لم نخطئ.

نعم، لدّي جرأة أدبية للإعتذار، هو إعتذار متأخر، نعم، لكنه إكسير لا بد منه، لأخرج عبره من ضوضاء عصفت كياني وأحالتني ضائعاً أمام صدرك الرحب وعقلك الراجح وصبرك الذي يفوقني بأشواط.

نعم يا صديقي، لا بد من إعتذار علني وواضح، إعتذارٌ لا لبس فيه، حاله كحال الحملة التي شننتها ضدك بالأمس القريب، لا مجال هنا للوقوف على حيثيات الماضي الغريب، كل ما أريده يتلخص بإعتذار، إعتذارٌ عن ما إقترفته يداي الصغيرتين بحقك، لا بأس بصفعة من عيار حضورك، وأنت الحاضر أبداً يا صديقي.

لا شيء هنا يجعلني سعيداً، وحدها القيم التي ورثتها تجعلني مضطراً للإعتذار، وحدها إصول اللياقة، أو لياقة الأصول، تجعلني غير قادر على حمل الظلم، كيف لا، وقد ظلمتك مرات ومرات.

هي صفحة جديدة، بل هو وجدان جديد حل عليّ ضيفاً في خضّم الخصومة العارمة، لا شيء يمنعني من التعبير عن إرثك العميق، عن ذاك الشيء الذي يسكن بحور نضوجك، لا أدري كيف أقاوم مليحك، وأنت من أنت، لا حاجة لأعدد من أنت، فأنت أنت في حضورك وفي غيابك. وحتى في خصامك.

يقول صديقي ناضحاً: “إياك، ثم إياك، أن تعتذر”، إياك ثم إياك يقول صديقي ناصحاً، وأنا من أنا، من أنا؟ لا أدري. ربما أحتاج سنوات لأعرف، ربما أعلم أن أحدهم دسّ في أذني ما لا يليق بك مقاماً ومقالاً، نعم، فعلها الرجل على مقربة من أذني، لكن لا تقلق، إياك أن تقلق، أرجوك أن لا تقلق، فأنا كما عرفتني دوماً، لا أخون صديقاً، ولا أغدر رفيقاً، ولن أقاوم رغبة بالتودد إليك، صحيحٌ أنني مترفٌ بالمشاكل، عابقٌ بالإنهيار، لكن الصحيح أيضاً، أنني بشّري يصنف في خانة الإنسان، الإنسان الذي جلد ذاته حدود الكفر. حدود اللا حدود.

نعم يا صديقي، لقد ظلمتك، ظلمتك حين إستمعت إلى أذني، كان عليّ، ربما، أن أحلل ما ورد في مضمون الكلمات، أن أسأل، أن أدقق، أن أثابر على معرفة الحقيقة، وأي حقيقة، لقد كنت مصاباً، يا صديقي، بداء يُدعى الإلزهايمر، هو داءٌ يصيب الكبار، الكبار في السن، وأنا طاعنٌ في السن أيضاً يا صديقي، طاعنٌ لأنني لا أدرك مدى الولادة، وأي ولادة، لا أدري، ربما أحتاج عمراً لأدرك ماهية الأشياء، وأي أشياء، ما بالها تداهمني لحظة إعترافي، لحظة الحديث عنك وعن الصداقة وعن وجع لا ينتهي، بل لا ينتهي، يقول العارفون بحالي، أنا اليتيم، أنا اليتيم يا صديقي!

مرحباً، كيف حالك يا صديقي، عساك بخير يا صديقي، طويلاً لم أسأل، لم أسأل عن حالك، عن صحتك، عن حياتك التي تعيشها، ما بالي، أرجوك أن تخبرني ما بالي، كيف لا أسأل عنك، وأنت من أنت، من أنت؟ بل منّ أنا، بل من يشدني إليك وأنا العارف بقدرتك على إجتراح المستحيل.

لماذا لم تتقدم؟ لماذا لم تتقدم بخطوة تجاهي يا صديقي؟ هل ظننك لبرهة أنني قد أعتذر منك؟ هل راهنت على تعبي؟ على ضعفي؟ على المخاض المستحيل الذي أخوضه؟ هل راهنت، بحق، على تناثري أمام عظيم سلطانك؟ أم أنك حليم من صنف الأنبياء، هل شعرت يوماً بشعور مماثل، هل أدركك العلم، وما يدور في فلكه من علوم، لتدرك بأنني عاجز عن إجتراح المستحيل؟ هل ضحكت بالفعل وأنت تشاهد عبثي من بعيد؟ ألم تبتهل للخالق كي يهديني للسراط المستقيم، هل قلت المستقيم؟ ما بالك يا صديقي تتنقل بين حديث وآخر. ما بالك؟

دعني أخبرك بصدق عن شعوري، أنا عاجزٌ، وربما عاجز، عن إخبارك بما يجول في مُخيلتي، دعني أتأمل ما مضى من فراق، دعني أشعر بمزيد من الغبطة، بمزيد من الوجل، بمزيد من التسليم بقضاء الله وقدره، أعلم بأن وقتك لا يسمح بمزيد من الإنهيار، أعلم، نعم أعلم، بأن ما يجول في مخيلتي يتخطى قدرتي البشرية على الإستيعاب، أعلم ذلك جيداً. ولكن، هل من جديد؟

هل من جديد، يا صديقي، يرتقي بنا إلى حيث نريد، أو أقله إلى حيث أريد، ماذا أقول لأصدقائي الذين ينظرون إليّ نظرة لا أحبذها، بل لا يحبذها الكوكب برمته، ما أقول، بالله عليك أخبرني ماذا أقول، هل من قول يبرر إنهياري أمام عظيم ما إقترفت يداي؟ أخبرني بربك، بل بكل من تكن لهم مودة أو إحترام، هل من قول يبرر إنهياري أمام عظيم ما إقترفت يداي؟

أنا يا صديقي، أعيش في كوكب مختلف، هو كوكب يناهز الكوكب رشاقة، يسأل أترابه عن الوفاء، يتعلم من ثغراتهم ما تيّسر من خبز وملح ويرتشف من أبارهم ما تيّسر من أكاسير الصبر والسلام.

إنه يوم الإعتراف، الإعتراف بالخطأ، كم كان الإعتراف فضيلة لو أننا لم نخطئ، كم كان الإعتراف فضيلة لو أننا لم نخطئ.

السابق
اغتيال الحريري: اللحظة التي ماتت بعد لحظة!
التالي
“نيويورك تايمز”: مغنية أمر بقتل الحريري وهذه التفاصيل