من أين لـ«داعش» هذه القوة؟

تشكل المأساة المروعة بمقتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة، بتلك الطريقة الوحشية البشعة التي شاهدها العالم كله، مناسبة لمراجعة السياسة المتبعة حتى الآن لمحاربة التنظيم الإرهابي «داعش»، التي لم تثمر سوى المزيد من التمدد والتغول لهذا التنظيم الذي ينسب نفسه إلى الدولة الإسلامية، والدولة الإسلامية الحقيقية منه براء.

لقد أظهرت هذه الجريمة النكراء التي هزت الضمير الإنساني، أن هذا التنظيم الإرهابي قوة مجنونة باطشة، يملك أصحابها إلى جانب المال والسلاح، الخبرات التقنية والفنية في التعامل مع الفضاء الافتراضي، وفي تقديم أنفسهم إلى العالم باعتبار أنهم قادرون على تحقيق أهدافهم الإجرامية، ومصممون على مواصلة البقاء في تلك المنطقة الواسعة من العراق وسورية، على رغم الضربات الجوية التي يشنها التحالف الدولي على مجموعاتهم حيثما كانت.

ويظهر من خلال الطريقة التي صورت بها تلك الجريمة غير المسبوقة، أن تنظيم «داعش» يحظى بمساندة تقنية في ابتكار فنون القتل وفي أساليب مخاطبة العالم، الأمر الذي يؤكد أن ثمة مصادر معينة وجهات مستفيدة، يستمد منها القوة والقدرة على ممارسة أبشع الجرائم لتشويه صورة الاسلام، وخدمة مصالح قوى إقليمية ودولية لها استراتيجيتها المشبوهة في المنطقة برمتها. فالخبراء يُجمعون على أن تصوير جريمة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً، كان من مستوى عال من الدقة الفنية، ومن استخدام أحدث طرق التصوير السينمائي، للوصول إلى أقصى حد من الترويع، ومن الإبهار أيضاً. وهذا عمل احترافي لا يمكن أن يصدر عن حفنة من الإرهابيين.

والولايات المتحدة الأميركية التي تقود التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، كما تزعم، تعلم ان هذا التنظيم الإرهابي المصنوع، لا يتعرض لإيران ولا لإسرائيل بأي عمل قتالي فكل إجرام هذا التنظيم موجّه لمسلمي سورية والعراق، ولبعض الطوائف غير المسلمة في هذين البلدين، ولتهديد دول عربية أخرى بأعمال إرهابية يخطط لها. وهذا وضع غريب يدفع إلى التشكيك في صدقية الادعاءات والمواقف التي تزوج هنا وهناك، مما يدعونا إلى مطالبة أميركا بأن تراجع حساباتها، إذا كانت جادة في ما تقول، وأن لا تكرر الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته عندما تقاعست عن ضرب النظام الاستبدادي الإجرامي في سورية، وعدلت عن العمل لإسقاطه في بداية الأزمة السورية، على رغم تكرار التصريحات من الرئيس باراك أوباما، بأن النظام السوري فقد شرعيته. وهذه السياسة المتخاذلة والغامضة التي تعتمدها الإدارة الأميركية إزاء النظام في سورية، هي التي أدت إلى تفاقم الأوضاع هناك لدرجة بات من المستبعد، في المدييْن القريب والمتوسط، أن تنتهي الأزمة إلى تسوية سياسية تضع حدّاً للمعاناة المريرة التي يقاسيها الشعب السوري. كما أن تلك السياسة التي اعتمدتها واشنطن في التعامل مع الأزمة السورية، هي التي أخرجت عفريت «داعش» من قمقمه، والذي أصبح يمثل خطراً يهدد الأمن والسلم في هذه المنطقة وفي العالم أجمع، وهي السياسة التي مكنت إيران من الاستمرار في التوسع في العراق وسورية ولبنان واليمن، في إطار استراتيجيتها المذهبية والقومية.

لقد فشلت الطريقة المتبعة في محاربة تنظيم «داعش». وأثبتت عجزها، وقد نبهت إلى ذلك في مقال سابق نشرته هذه الجريدة. وعلى التحالف الدولي أن يعترف بهذا الفشل، وأن يبادر إلى تغيير السياسة المعتمدة حتى الآن، بما يقتضي النزول إلى الأرض بطريقة أكثر تطوراً وأشدّ فعالية، بحيث تشارك النخبة من القوات الخاصة من دول التحالف، في عمليات مفصلية تدمر التنظيم في مواقع عديدة، وتقطع دابره وتجتث جذوره، إن كانت له جذور أصلاً في الأراضي العراقية السورية التي بات يحتلها. وفي الوقت نفسه تقضي على التنظيمات الإرهابية الطائفية التي ثبت تورطها في عمليات إبادة واضطهاد إجرامية، وأن توقف التمدد الإيراني وتسقط عملاءه الذين هم من أكبر أسباب عدم الاستقرار وصانعي الإرهاب في المنطقة. فتلك هي الطريقة الناجعة التي يمكن أن تطوي صفحة هذا التنظيم الإرهابي، وجميع انواع الإرهاب المماثلة له ومن يقف وراءها، بخلاف ما يقع اليوم من توجيه ضربات جوية محدودة لا تسمن ولا تغني من جوع. ولقد سبق لوزير الخارجية الأميركي جون كيري أن صرح، قبل فترة قصيرة، أن التحالف الدولي لمحاربة «داعش» لم يحقق هدفه، وأن التنظيم لم يتأثر بالضربات الجوية. وذلك من دون أن تبادر واشنطن إلى مراجعة الخطة المقررة في هذا المجال.

وبالعودة إلى الجريمة الفظيعة التي ارتكبها تنظيم «داعش» بقتله الطيار الأردني، ومن قبله الأسيرين اليابانيين والأسرى الغربيين، نجد أن هذه الوحشية المفزعة المقززة للنفوس، تدل دلالة قاطعة على أن من ارتكب تلك الجريمة لا يمكن أن تكون له صلة بالإسلام دين السماحة والرفق الذي أوصى نبيُّه، (صلى الله عليه وسلم)، بالمعاملة الطيبة للأسرى بصورة عامة. وقد حرم الإسلام التمثيل بالنفس البشرية بالحرق أو بأي شكل من أشكال التعدي، حتى في الحرب مع من يعتدي على المسلمين. وهذا ما يجعلنا نشك كثيراً في حقيقة انتماء هذا التنظيم إلى الدين الإسلامي، حتى وإن كان يرفع رايات كتبت عليها كلمات التوحيد، ليخدع بها الناس ويضللهم. وهو الأمر الذي يدفعنا إلى القول إن هذا التنظيم يعمل لتشويه صورة الإسلام في العالم، ويسعى إلى تنفير الناس من الإسلام، وأنه ليس له من هدف سوى الإسهام في تقسيم المنطقة، وربط الإسلام بالإرهاب، حتى بات الإعلام الغربي، وبعض المسؤولين في الدول الغربية، يرددون في مناسبات كثيرة، تعبير «الإرهاب الإسلامي»، بينما الإرهاب لا دين له، فالإرهاب إرهابٌ وكفى، وهو جريمة ضد الإنسانية تحرمها الشرائع السماوية، وتجرمها القوانين الدولية، وتنفر منها وتبغضها وترفضها النفوس السوية. ولذلك فإن وراء هذا التنظيم المشبوه من يسعى لتحقيق هذا الهدف الخبيث.

لقد حان الوقت للانتقال إلى مرحلة جديدة من محاربة تنظيم «داعش»، وإدراج بقية التنظيمات الإرهابية في العراق وسورية ولبنان واليمن ضمن هذه المرحلة، ومراجعة ما تم إنجازه، وتقييمه، في ضوء الواقع الذي لا يزداد إلا قتامة وتفاقماً وسوءاً. فليس من العقل السليم، ولا من الحكمة السياسية، ولا من المصلحة الدولية، أن تستمر الحال على ما هي عليه، هذا إذا كان من يقود التحالف الدولي صادقاً في توجهه، ولا أظنه صادقاً.

(الحياة)

 

 

 

السابق
الخطة الأمنية في البقاع دفنت قبل ان تولد.. بقرار ممن؟
التالي
نائب اميركي سابق يزور ايران