لحام في رسالة الصوم: مسيحيو الشرق مدعوون لان يكونوا صانعي سلام

وجه بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام رسالة الصوم الأربعيني الكبير المقدس، وجاء فيها: “اللهم اغفر لي أنا الخاطئ وارحمني، عبارة هي صراخ نفس وروح وجسد وأحاسيس، نطلقه مئات المرات في صلواتنا الطقسية، لا سيما أيام الصوم الكبير المقدس. وفيه الكثير من العفوية والعمق والمشاعر، وربما أيضا من السطحية والرئاء، وقساوة القلب والتظاهر. وحسب مقتضيات آداب الطقس تقترن هذه العبارة المقتضبة بحركة الجسم، فيشارك فيها الجسم كله: اليدان والركبتان والجسم بامتداده، بحيث يلامس المصلي الأرض بيديه، ورأسه وفمه وشفتيه. وربما قرع صدره ندما، ورفع عينيه ابتهالا واستعطافا وتشفعا، وطلبا، وحوار ندم وآهة وشهقة ولهف وعشق. كل ذلك مختصر في هذه العبارة الروحية: أللهم اغفر لي أنا الخاطئ وارحمني! إنها المدخل إلى التوبة، إلى زمن الصوم المبارك، كما ننشد في مطلع زمن الصوم التريودي: “افتح لي أبواب التوبة يا واهب الحياة! لأن روحي تبتكر إلى هيكلك المقدس! حاملة هيكل جسدي، مدنسا بجملته”.في هذه العبارات مسيرة روحية داخلية. وكذلك مسيرة جسدية، إلى الهيكل، إلى قدس الأقداس، إلى الكنيسة… مسيرة الجسد والروح معا”.

التوبة في الصلوات الطقسية
في رسالة الصوم لهذا العام، أريد أن أتوجه إليكم أيها الأحباء، بلغة ونصوص وروحانية وحبور وشاعرية، وعمق وعلو وجمال صلواتنا الطقسية العريقة المقدسة، إنها إرثنا الجميل التليد، الثري، الغني، إرث الآباء والأجداد والآباء القديسين. إنه إرث له من العمر ألف ومئتا سنة، ربما نحتاج إلى المصالحة مع هذا التراث، الذي لا نحبه ولا نقدره، لا بل نمجه. وأقول مرارا نعاديه، لأننا نجهله! وقد صدق القول: الإنسان عدو لما يجهله.

والملفت أن التوبة وبغض الخطيئة والبعاد عنها والتخلص منها والهرب منها وطلب العون للتغلب عليها، هي النغمة الغالبة في صلواتنا المقدسة.

سأستعرض عناصر التوبة، التي هي في الواقع عناصر الحزن المفرح والدموع المطهرة والآمال العريضة بالخلاص والسعي الدائم إلى المزيد من الكمال والطهارة والنقاء والشفافية والترقي والقداسة.

سأستعرض هذا كله من خلال سرد مقاطع من صلواتنا. وهكذا أختبئ وراء نصوص آبائنا القديسين، أنا الخاطئ! مزمور التوبة بامتياز، هو المزمور الخمسون، الذي صلاه النبي والملك داوود، معبرا عن ندمه الشديد على خطيئتي القتل والزنى. ونتلوه 4 مرات في الصلوات اليومية. ومن المفيد أن تصبح آياته هذيذا روحيا يوميا طبيعيا، إذ كل آية من آياته تعبير وجداني عن التوبة، وطلب التجدد بالروح القدس، حري بكل مسيحي أن يجعل من هذا المزمور صلاته الدائمة ويحفظه عن ظهر قلبه! التسابيح الكتابية التسعة، ونتلوها في صلاة السحر أيام الصوم الأربعيني، وهي وصف لمسيرة شعب العهد القديم، في خبرة الأمانة للعهد مع الله، وخبرة الخيانة للعهد والخطيئة والبعاد عن الله، ورحمته الواسعة وأمانته الثابتة، رغم خطيئة الإنسان!

ربما يتشكك البعض، من رجال الإكليروس والمكرسين والمكرسات والمؤمنين والمؤمنات، بسبب بعض العبارات القاسية في نصوص المزامير، والتسابيح وأسفار العهد القديم، وفيها مثلا دعوة إلى تدمير الأعداء والخطأة، ولكن يجب فهمها بمعناها الروحي. فالأعداء الحقيقيون هم الخطيئة في الإنسان أولا. وبولس الرسول يتكلم عن الجهاد الروحي ويدعو إلى الحرب الروحية، لا سيما أيام الصوم، ويقول لنا: “إحملوا ترس الإيمان. واتخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح أي كلمة الله” (أفسس 10:6-17).

وقد وضعنا شرحا مفصلا حول روحانية تسابيح وأوديات قوانين كتاب المعزي التي نتلوها في صلاة السحر (راجع كتاب الصلوات الطقسية). وأرى من الفائدة إثبات الجزء الأخير من هذه المقدمة، إذ أعتبره مختصر روحانية صلواتنا الطقسية، ومختصر روحانية الصوم المبارك.
نكتشف ثلاثة أبعاد روحية في كتاب المعزي:
1- “البعد النسكي” أو “الجهادي”. فالأناشيد تردد الدعوة الى الجهاد الروحي، وإلى التوبة وانسحاق القلب، وإلى العمل بوصايا الرب. فملذات العالم تبدو حلوة، ولكنها تقود دوما الى الإحباط والملل. وبالعكس الأمانة للوصايا والتعلق بها طريق الإنسان إلى السعادة الحقيقية.

2- “البعد السري” يتجلى في تلك العواطف والأحاسيس، وفي الحنين والشوق إلى الله. إنها تملأ قلب المصلي وتدخله في شركة الملائكة والقديسين، الذين يعيشون في ليترجية سماوية وفي احتفال مستمر.

3- “البعد الأخيري” أو “الأخروي” هو غاية الصلاة وقمتها. المؤمن المصلي في انتظار دائم لعودة “الختن”. إنه في تأهب لملاقاة الرب مثل العذارى الحكيمات. إنه مشدود من خلال حياته الأرضية بالأبدية مع الرب يسوع الذي ينير عينيه ويغمر حياته بالنور.

هذه الاعتبارات الكتابية واللاهوتية والنسكية تبرز أهمية كتاب المعزي الذي هو حقا رفيق المصلي المؤمن على مدار السنة. إذ يتكرر كل ثمانية أسابيع من الفصح الى الفصح. إنه مدرسة لاهوتية وروحية ونسكية وتصوفية، تطال الإنسان في كل زمان ومكان.

رتبة الساعة الأولى، تشير مزاميرها إلى تجنب ظروف الخطيئة، وعدم مساكنة الأشرار، والاعتراف بأن الله يعرف خفايانا. وأن أيامنا زائلة. وعلينا أن نتعلم طريق الحكمة والكمال والقداسة، إستعدادا للحياة الأبدية.

الساعة الثالثة: ترشدنا إلى التوبة من خلال المزمور الأساسي فيها، وهو المزمور الخمسون الذي تكلمنا عنه سابقا.

الساعة السادسة: تتميز بالمزمور الأساسي التسعين، وهو معروف لدى القدامى من العامة بمزمور “الساكن”، أو مزمور العناية الإلهية. روحانية هذه الساعة هي المشاركة في آلام المسيح، حيث نقرأ هذا الدعاء: “يا من في اليوم السادس والساعة السادسة سمر على الصليب الخطيئة التي جسر عليها آدم في الفردوس، مزق أيضا صك زلاتنا أيها المسيح الإله وخلصنا”. وفي الصلاة الختامية لهذه الساعة، يسكب القديس باسيليوس نفسه في صلاة وجدانية، فائضة بعواطف الندامة والعودة إلى المسيح والالتصاق به، والرغبة في الابتعاد عن الخطيئة، والحنين، والنظر إلى المسيح المتألم على الصليب. نقرأ طالبين شاكرين: “نجنا من كل سقطة مهلكة في الظلام! ومن جميع الأعداء المنظورين وغير المنظورين. سمر أجسادنا بخوفك! لا تمل قلوبنا إلى الأقوال والأفكار السيئة! إجرح نفوسنا بالحنين إليك! لكي نحدق إليك في كل حين”.

الساعة التاسعة: تتحول فيها عواطف الندامة والتوبة إلى رغبة في السكنى دائما مع الرب في هيكله، وإلى فرح، ورقص روحي وجسمي، وانطراح أمام الرب… وهذا ما نقرأه في المزمور الأساسي لهذه الساعة (مز 83).

ما أحب مساكنك يا رب! طوبى لسكان بيتك! يهتز قلبي وجسمي للاله الحي، إن يوما واحدا في ديارك خير من آلاف! وهنا، تصبح التوبة حياة مع الرب، واستسلاما له، واتكالا عليه، وأملا كبيرا قويا بخلاصه. ونجد أجمل تعابير التوبة مقرونة بالثقة والرغبة في حياة جديدة، في صلاة ختام هذه الساعة للقديس باسيليوس الكبير، حيث نتصور ذواتنا مثل اللص على الصليب مع المسيح المصلوب، نطلب الغفران منه، ونرفع عيوننا إليه باعتراف وانسحاق وثقة: “أشفق علينا أنت المعلق على العود المحيي، خلصنا من أجل اسمك القدوسـ أيامنا فنيت بالباطل، إصفح عن خطايانا، أمت أهواءنا الجسدية، أعطنا أن نخلع الإنسان العتيق ونلبس الجديد، فإنك أنت حقا السرور والبهجة الحقيقية للذين يحبونك ايها المسيح إلهنا. هذه حقا من أجمل التعابير عن الندامة والاعتراف والفرح بالخلاص من خلال التوبة. تتردد هذه التعابير في صلاة الغروب، وبنوع خاص في صلاة النوم الصغرى، لا سيما في صلوات النوم الكبرى الخاصة بالصوم الأربعيني الكبير، وهي صلاة شعبية محببة لدى المؤمنين، والمعروفة بصلاة “يا رب القوات”، وفيها أناشيد التوبة المعروفة والمؤثرة حتى البكاء: ارحمنا يا رب، ارحمنا لأننا عليك اتكلنا، لا تغضب علينا جدا… افتحي لنا باب التحنن يا والدة الإله المباركة… المزامير كلها دعوة إلى التوبة، وفيها عناصر وعبارات التوبة والندامة والتزلف إلى الله. طلبة السؤالات في القداس، والسحر والغروب، فيها ابتهال: أن نقضي الزمن الباقي من حياتنا بسلام وتوبة الرب نسأل… وأن تكون أواخر حياتنا مسيحية سلامية بلا وجع ولا خزي، وتتردد عبارات التوبة في الصلوات السرية التي تقال في مطلع صلاة السحر والغروب.

ومن أجمل صلوات التوبة، الصلاة التي مطلعها:
يا من هو في كل وقت وفي كل ساعة في السماء وعلى الأرض. مسجود له وممجد. المسيح الإله، الطويل الأناة. الكثير الرحمة، الجزيل التحنن، الحوب الصديقين والراحم الخطأة. والداعي الكل إلى الخلاص بموعد الخيرات المنتظرة. أنت يا رب تقبل منا نحن أيضا في هذه الساعة طلباتنا، ووجه حياتنا إلى وصاياك. قدس نفوسنا، نق أجسادنا، قوم أفكارنا، طهر نياتنا، نجنا من كل ضيق وشر ووجع، حصنا بملائكتك القديسين.

التوبة مرتبطة بالدينونة الأخيرة وبالموت، وبالمثول أمام منبر المسيح وانتظار العروس، كما تشير إلى ذلك صلوات نصف الليل في المزمور 118 الذي هو مزمور محبة وعشق كلمة الله، التي تنفي الخطيئة إلى خارج.

من ذلك صلاة القديس باسيليوس والمقطع الجميل: “اغفر لنا ما اقترفنا من الذنوب بالفعل والقول والفكر، عن معرفة أو عن جهل، وطهرنا من كل دنس جسدي وروحي، واجعلنا هياكل لروحك القدوس. جد علينا بأن نقضي ليل عمرنا الحاضر كله بقلب ساهر وعقل مستيقظ منتظرين مجيئ اليوم الباهر العلني.

الصلاة الطقسية اليومية هي ضمانة لتوبة دائمة، وهي ممارسة التوبة بطريقة طبيعية، بحيث تصبح التوبة عنصرا طبيعيا من حياتنا اليومية. وأحب أن أستوحي صلوات الأسبوع العظيم المقدس، وفيها دعوات جميلة روحية إلى التوبة التي هي مسيرة نحو يسوع ومع يسوع.

جمال التوبة والنقاوة
إنني أشاهد خدرك مزينا يا مخلصي، وليس لي ثوب للدخول إليه، فأبهج حلة نفسي. يا مانح النور وخلصني (نشيد النور).

ذكر التينة والعلاقة بالملكوت وخدر المسيح
خطئت إليك أيها المسيح مخلصي. فلا تقطعني كالتينة الخالية من الثمر، بل بما أنك متحنن، إرأف بي أنا المبتهلة إليك بخوف: لا نلبثن خارج خدر المسيح.” (سحر الثلاثاء العظيم)

التوبة صداقة مع الرب
“أيها العروس الأبهى جمالا من جميع البشر، الذي دعانا إلى وليمة خدره الروحية. إنزع عني صورة زلاتي الشنيعة، بمشاركة آلامك. وزيني بحلة مجد بهائك، واشركْني في أفراح ملكوتك، بما أنك متحنن. (سحر الثلاثاء العظيم – قطع آخر السحر).

الأربعاء: يوم التوبة بامتياز
خطئت أكثر من الزانية، أيها الصالح، ولم أقدم لك قط سيول دموع، فأخر ساجدا لك بصمت، وأقبل قدميك الطاهرتين بحب لتمنحني بما أنك السيد. ترك ديوني أنا الصارخ: يا مخلص انتشلني من حمأة أفعالي (قنداق الأربعاء العظيم).
فما أقبح التهاون. وما أعظم التوبة! فامنحني إياها يا مخلص، يا من تألم لأجلنا، وخلصنا” (سحر الأربعاء العظيم – السحر).

التوبة عودة إلى الفردوس، وإلى جمال صورة الله فينا وهذا ما نسمعه أثناء صلوات الجناز، حيث نودع أمواتنا بعواطف الإيمان بهذه العبارات الجميلة:
أنا صورة مجدك الذي لا يوصف، وإن حملت سمات الزلات. فارأف بجبلتك أيها السيد وطهرني بتحننك. و?منحني الوطن المشتهى، معيدا إلي حقوق أهل الفردوس.”
“يا من قديما من العدم جبلني، وبصورته الإلهية شرفني، ولتجاوزي وصيته أعادني إلى الأرض التي منها كونني، أعدني إلى ما هو على مثالك، فيبْعث في الجمال القديم”.
ومن هنا يظهر واضحا أن التوبة والصلوات الداعية إليها ليست كما يظن البعض سبب إحباط أو يأس. بل بالعكس هي سبب فرح ورجاء وأمل وشعور بقوة روحية جديدة، تساعد حتى في أمور الحياة اليومية، وفي النجاح، وفي التفاؤل والنظرة الإيجابية إلى الحياة. وهذه خبرتي الشخصية. فمن خلال التوبة والاعتراف، أكتشف أبعادا جديدة في حياتي وأكتسب قوة وعزما وتصميما وتنفتح أمامي آفاق جديدة في حياتي… أكتشف أنني من جهة خاطئٌ وضعيف… ولكنني من جهة أخرى مخلوق على صورة الله، محبة الله تغمرني، ونعمته تعضدني وتقويني أمام صعوبات الحياة.
القديسون جميعهم امتازوا بالتوبة وتقدسوا بأعمال التوبة. ويوصون بالتوبة. فالتوبة هي طريق القداسة.

صلاة يسوع
ونوصي في أيام الصوم بممارسة شرقية نسكية آبائية رهبانية قديمة، وهي صلاة يسوع، وهي صلاة توبة بامتياز. كلمات صلاة يسوع بسيطة مقتضبة وهي: يا سيدي يسوع المسيح، إبن الله الحي، إغفر لي أنا الخاطئ. إنها لعمري كلمات سهلة الفهم والقول. ولذا فيمكن تلاوة صلاة يسوع في كل وقت وفي كل مكان: في السيارة، وعلى الطريق، وفي البيت، وأنت تتسوق، أو تنظف البيت أو تدهن حائطا، أو تغسل أو تجلي أو تكنس.
ولكن حتى تنمو حقا في ممارسة هذه الصلاة فتصبح فيك ينبوع ماء حي ينبع للحياة الأبدية (يو 14:4)، عليك أن تتفرغ خصيصا بعض الوقت لممارستها. فيمكنك في البداية أن ترددها حتى 100 مرة، وتزيد في العدد تدريجيا.

ولتسهيل عملية العد، يلجأ الرهبان والمتعبدون إلى مسبحة خاصة شبه المسبحة الوردية المعروفة. وفيها 20 أو 30 أو 100 أو 300 عقدة من القماش.
البعض يرددون صلاة يسوع بحيث تنسجم مع تنفسهم وحركات جسدهم وخلجاته. وهكذا يشترك كيانهم كله، نفسا وجسدا في أداء هذه الصلاة. وتصبح هكذا فيهم رويدا رويدا صلاة القلب” (من كتاب مدخل إلى الرتب الليترجيا ورموزها في الكنيسة الشرقية للمطران لطفي لحام)
مسيرة الصوم! مسيرة توبة!
وتعدنا الكنيسة لمسيرة التوبة والصوم من خلال الآحاد الأربعة السابقة للصوم: أحد الفريسي والعشار وفيه نسمع صلاة العشار، وهي عنوان هذه الرسالة “اللهم اغفر لي أنا الخاطئ”. وأحد الابن الشاطر أو الابن التائب أو الأب الرحيم. وأحد الدينونة وسبت الأبرار والنساك وأحد الغفران، وهو الأحد السابق للصوم.

فالصوم هو مسيرة التوبة بامتياز، وهو وقت مقدس ومقدس، ووقت لمسيرة السعي إلى القداسة!

التربية على التوبة
إن الصلوات الطقسية هي مدرسة توبة دائمة. ومن المهم ومن واجب الكهنة والرعاة والآباء الروحيين أن يساعدوا المؤمنين ويرشدوهم إلى طرق التوبة، بحيث يصبح الكاهن في الرعية أبا روحيا ومرشدا، وهذه أسمى علاقة بين الكاهن وأبناء رعيته. ولا بد هنا من عملين متميزين ومتكاملين، هما: الاعتراف السري والإرشاد الروحي. ولهذا، لا بد من إيجاد أفضل الطرق لتسهيل الاعتراف للمؤمنين. ولا بد أن يتفرغ الكاهن لسماع اعتراف المؤمنين وإرشادهم. وهذا يصير أثناء صلوات الصوم، والاحتفال بالليترجيا الإلهية، ومن خلال تخصيص أوقات محددة لسماع الاعترافات يعلن عنها على مدخل الكنيسة.

سر التوبة والاعتراف
أحب أن أعطي بعض التوجيهات العملية في مسيرة التوبة لأيام الصيام ولحياتنا المسيحية:
1- كل مرة تشعر بضميرك مثقلا بالخطيئة إذهب إلى أب روحي واعترف أمامه لله الرحيم.
2- تب واعترف خصوصا قبل المناولة المقدسة.
3- كل خطيئة مهما كانت، تحتاج إلى توبة صادقة.
4- أنت بحاجة إلى أب روحي ومعلم اعتراف يساعدك على التوبة ويسمع اعترافك الصادق ويرشدك إلى مرضاة الله والسلوك في طريق القداسة المسيحية.
5- الأفضل لذلك أن تمارس سر التوبة والاعتراف خارج القداس، فتقصد الكاهن أو الأب الروحي خصيصا للاعتراف مرفقا بالإرشاد الروحي.
6- التوبة والاعتراف سر الجماعة: فإنك أنت عضو في كنيسة نقول عنها في قانون الإيمان: “نؤمن بكنيسة مقدسة”.
7- والتوبة والاعتراف سر القداسة والجمال الروحي والكمال المسيحي. إلى هذا دعانا السيد المسيح قائلا: “كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل” (متى 47:5).
8- كن دوما على اتصال مع أب روحي يرافق مسيرة حياتك المسيحية، وكن معه صريحا وبه واثقا وله مطيعا. اعترافك بخطأك وضعفك ليس ذلا، بل هو دليل نفس تسعى إلى الأفضل وإلى تجلي الحياة المسيحية فيها.

الصوم وقت التوبة بامتياز
إخوتي وأبنائي الأحباء، هوذا الآن وقت مقبول ويوم خلاص، هذا أجمل وصف لمرحلة الصيام المبارك، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور، كلنا خطأة، وكلنا بحاجة إلى توبة وإلى خلاص من الخطيئة، من الشهوات، من كل ما يستعبدنا من أكل وشرب وملبس ولذة وحسد وغضب وحقد ومرارة ومنازعات وخصومات وكبرياء وعناد وثرثرة ونميمة وطيش ولهو وسطحية، من يعمل الخطيئة فليس حرا، ولكنه عبد للخطيئة!

مرحلة الصوم بر وقداسة وصلاة وتحرر من الخطيئة والشر والفساد! فلنعمل جاهدين في ممارسة الصوم الجسدي والصوم الروحي: الصوم عن المآكل حسب طاقتنا، رغم أننا صائمون بطبيعة أوضاع الغلاء والفقر والجوع والنزوح والتشرد، والصوم عن الخطيئة والتمرس بالصلاة والتأمل والمطالعة الروحية والتقرب من سري التوبة والمناولة المقدسة، وليقبل المخلص يسوع صومنا وتوبتنا.

ممارسات الصوم والتوبة
أيها الأحباء أتوجه إليكم، داعيا إياكم إلى الإقبال على التمرس بحياة روحية مسيحية أعمق، في هذه الأيام، يكون قوامها:
1- صلاة أكثر شخصية وعمقا في البيت وفي الكنيسة، بالاشتراك خاصة بصلاة “يا رب القوات” ومدائح العذراء.
2- ممارسة الصوم والقطاعة، كل حسب طاقته.
3- ممارسة الإماتة الجسدية والروحية على أنواعها.
4- عيش المحبة الأخوية في العلاقات الاجتماعية.
5- التقرب من الأسرار المقدسة.
6- الصدقة وعمل الخير، كل حسب طاقته وظروفه.

إذا عملنا هذه يكون صومنا مقبولا، ونقدس أيام الصيام، ونتألق بنور إنجيل يسوع المسيح، ونشهد للمسيح في مجتمعنا.

أيها الإخوة والأخوات، توبوا وتقدسوا، فقد اقترب ملكوت السماوات، وهكذا كانت دعوة الأنبياء: يكرزون بالتوبة، التوبة مختصر دعوة يوحنا المعمدان: إنه الكارز بالتوبة، وهكذا بدأت رسالة السيد المسيح: توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات.

البرنامج المثلث الذي نقتطفه من مروج بستان صلواتنا المقدسة، برنامج رائع، مترابط الأجزاء منسجم الأهداف، ألا وهو الصوم والصلاة والتوبة. فالصوم دعوة إلى الصلاة، والصلاة طريق إلى التوبة، والتوبة قوام الصوم والصلاة. فإذا صمت فأنعش صومك بالصلاة اللفظية والعقلية والتأمل. وإذا صليت فادخل إلى أعماق نفسك وضميرك، واكتشف ضعفك، وتواضع أمام الله، واثقا خاشعا مستغفرا نادما.

وإذا تبت عائدا إلى الله ومتصالحا مع قريبك، فتكون قد بلغت غاية الصوم والصلاة وتطهرت بعمل الخير، استعدادا للاحتفال الروحي الحقيقي بفصح الرب وقيامته المجيدة. ولذا، تقدم إلى سر التوبة والاعتراف في مرحلة الصوم. هذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة، الصوم هو صوم القيامة، فهو الصوم الذي يعد المؤمنين للاحتفال بعيد القيامة المجيدة. والصوم مسيرة درب الصليب، ونحن في العام الخامس من درب صليب بلادنا العربية، لا سيما في سوريا والعراق وفلسطين، وأيضا في لبنان الذي يتأثر بطريقة مأسوية بالحروب، التي تستعر حوله، وهو الذي استقبل على مراحل نازحين ولاجئين من فلسطين (منذ عام 1949) ومن العراق (منذ أعوام وعلى دفعات)، ومن سوريا (منذ عام 2011). جلجلة بلادنا واسعة جدا، إنها مأساة من أكبر مآسي التاريخ في المنطقة، لا بل في العالم منذ الحرب العالمية الثانية. كرعاة نحن مع شعبنا، إلى جانبه، أمامه، وراءه، في خدمته، كأننا نغسل أرجل المتألمين مثلما غسل يسوع أرجل تلاميذه، وإننا نطلب منهم السماح لأننا مهما بذلنا من جهود، فلا يمكننا أن نلبي الحاجات المتزايدة يوما بعد يوم. إننا نعجز أمام معاناة شعبنا بكل طوائفه مسيحيين ومسلمين. إنها معاناة كونية، معاناة الجميع. لقد طال الفقر والجوع والبرد والعري والمرض والألم والإعاقة، الجزء الأكبر من أبنائنا، لا سيما في سوريا، وقد تساوى الجميع فيها. وكما قلنا، فالأمر كذلك في مجمل البلاد العربية، لا سيما العراق وفلسطين ولبنان، وأيضا مصر وليبيا واليمن.

شعلة الأمل
إننا ندعو أبناءنا وجميع المواطنين كما عملنا في كل رسائلنا، ومع قداسة البابا فرنسيس، إلى ألا تتركوا شعلة الأمل تنطفئ في قلوبكم، وقد أطلقنا مبادرة “شعلة الأمل والسلام لسورية” على عيد الميلاد. ونطلب من الجميع أن يشعلوا هذه الشمعة في بيوتهم وقلوبهم ونفوسهم ومشاعرهم، وتكون النور الحقيقي الذي لا ينطفئ (كما تنطفئ الكهرباء أو يفقد المازوت أو…)، بل تنير درب جميع المواطنين.

بألم شديد نتحقق أن كثيرين يهاجرون، وينزحون، بطرق شرعية وغير شرعية، وكم سمعنا عن قصص معاناتهم جميعا، منهم من ينزح ويهاجر لسبب، ومنهم بلا سبب، نحن نحرض الجميع على البقاء والصبر والتجلد والتمسك بحبال الرجاء والإيمان والاستسلام لمشيئة الله، ولكننا لا نرغم أحدا على البقاء، فالقرار هو قرار شخصي ومسؤولية كل فرد وكل أسرة.

أما نحن كرعاة فإننا سنبقى مع من يبقى، ونخدمه بعيوننا، وبكل قوانا، ونسعى كما قلنا أعلاه للمساعدة بكل ما أوتينا من طاقات واتصالات وأسفار ومراسلات وبيانات.

ونشكر كل من يساعدنا في مهمتنا هذه الصعبة، وجميع المؤسسات المحلية والعالمية، والمدنية والدينية، الإسلامية والمسيحية، الكاثوليكية والأرثوذكسية والأنكليكانية واللوثرية وسواها.

البابا فرنسيس يخاطبنا في معاناتنا
ونشكر بنوع خاص قداسة البابا فرنسيس لصلاته واهتمامه ونداءاته وخطاباته ومساعدته المادية من خلال الدوائر الرومانية والمؤسسات المرتبطة بالفاتيكان.

ونحب أن نشكره على رسالته الخاصة التي وجهها إلى مسيحيي الشرق الأوسط بمناسبة الأعياد الميلادية ورأس السنة الجديدة.

ويسرنا أن نذكر مقاطع واسعة منها لجمالها وأهميتها لنا كمسيحيين ولجميع المواطنين:
“الآلام والمحن لم تغب قط عن ماضي الشرق الأوسط البعيد والقريب، لا بل تفاقمت خلال الأشهر الأخيرة بسبب النزاعات التي تعذب المنطقة، لا سيما بسبب أعمال إحدى المنظمات الإرهابية الناشئة حديثا، والتي تبعث على القلق، حجمها يفوق أي تصور، وتمارس شتى أنواع الانتهاكات وممارسات لا تليق بالإنسان، وتضرب بشكل خاص بعضا منكم الذين طردتم بطريقة وحشية من أراضيكم حيث يوجد المسيحيون منذ عصر الرسل.

وإذ أتوجه إليكم لا يمكنني أن أنسى أيضا الجماعات الدينية والعرقية الأخرى التي تعاني أيضا من الاضطهاد وتبعات هذه النزاعات. أتابع يوميا أخبار المعاناة الكبيرة للعديد من الأشخاص في الشرق الأوسط. أفكر بشكل خاص بالأطفال والأمهات والمسنين والمهجرين واللاجئين، وجميع الذين يعانون من الجوع، ومن عليه أن يواجه قساوة الشتاء بدون سقف يحميه. وهذا الألم يصرخ نحو الله ويدعونا جميعا للالتزام بالصلاة والمبادرات بكل أنواعها. وأرغب في أن أعبر للجميع عن قربي وتضامني كما عن قرب الكنيسة وتضامنها، وأن أقدم كلمة تعزية ورجاء.

في خضم العداوات والصراعات، تشكل الشركة المعاشة في ما بينكم، ضمن إطار الأخوة والبساطة، علامة لملكوت الله. إني مسرور حيال العلاقات الجيدة والتعاون القائم بين بطاركة الكنائس الشرقية الكاثوليكية وتلك الأرثوذكسية، وبين مؤمني مختلف الكنائس. إن الآلام التي يعاني منها المسيحيون تقدم إسهاما لقضية الوحدة لا يقدر بثمن، إنها مسكونية الدم التي تتطلب استسلاما واثقا لعمل الروح القدس.

أتمنى أن تتمكنوا دائما من الشهادة ليسوع من خلال الصعوبات! إن حضوركم ذاته هو شيء ثمين بالنسبة إلى الشرق الأوسط. إنكم قطيع صغير، لكنكم تتحملون مسؤولية كبيرة في الأرض حيث ولدت المسيحية وانتشرت. إنكم كالخميرة وسط سواد الناس. يشكل المسيحيون، أي أنتم، الكنز الأثمن بالنسبة للمنطقة. شكرا على مثابرتكم!

إن جهدكم الهادف إلى التعاون مع أشخاص من ديانات مختلفة، مع اليهود ومع المسلمين، يشكل علامة أخرى لملكوت الله. الحوار ما بين الأديان يكتسب أهمية أكبر بقدر ما تزداد الأوضاع صعوبة. لا يوجد سبيل آخر. إن الحوار المرتكز إلى مواقف الانفتاح، في الحقيقة والمحبة، يشكل أيضا أفضل ترياق لتجربة الأصولية الدينية التي تهدد مؤمني كل الديانات. والحوار هو في آن معا خدمة للعدالة وشرط أساسي للسلام المنشود.

يعيش معظمكم في بيئة ذات غالبية مسلمة. يمكنكم أن تساعدوا مواطنيكم المسلمين على أن يقدموا، باستبصار، صورة أكثر أصالة عن الإسلام كما يريد كثيرون منهم، من يرددون أن الإسلام هو دين سلام ويمكن أن يتفق مع احترام حقوق الإنسان ويسهل التعايش بين الجميع.

أيها الأعزاء، جميعكم تقريبا مواطنون أصليون في بلادكم، وتتمتعون بالتالي بالواجب وبالحق في المشاركة التامة بحياة أمتكم ونموها. أنتم مدعوون في المنطقة لأن تكونوا صانعي السلام والمصالحة والنمو، لتعززوا الحوار وتبنوا الجسور تماشيا مع روح التطويبات (را. مت 5، 3-12) وتعلنوا إنجيل السلام وتكونوا منفتحين على التعاون مع كل السلطات الوطنية والدولية.
أيها الأعزاء، وإن كنتم قليلين من حيث العدد فإنكم رواد حياة الكنيسة والبلدان التي تعيشون فيها. إن الكنيسة كلها قريبة منكم وتؤازركم، مع الكثير من المحبة والتقدير لجماعاتكم ورسالتكم. سنواصل مساعدتكم من خلال الصلاة والوسائل الأخرى الممكنة.

أيها الأخوات والإخوة، الأعزاء مسيحيو الشرق الأوسط، لديكم مسؤولية كبيرة، ولن تكونوا وحدكم في مواجهتها. ولهذا، أردت أن أكتب إليكم لأشجعكم ولأعبر لكم عن مدى قيمة حضوركم ورسالتكم في هذه الأرض التي باركها الرب. إن شهادتكم تفيدني جدا. شكرا، أصلي يوميا من أجلكم ومن أجل نواياكم. أشكركم لأنني أعلم أنكم ووسط معاناتكم، تصلون من أجلي ومن أجل خدمتي للكنيسة، آمل كثيرا بنوال نعمة زيارتكم شخصيا ومؤازرتكم لترافقكم العذراء مريم، أم الله الكلية القداسة وأمنا، ولتحميكم دائما بحنانها.(إلى هنا رسالة البابا فرنسيس بمناسبة عيد الميلاد المجيد 2014).

كما نشكر نداءات أتت من غير مصادر مسيحية، تناشد المسيحيين أن لا يهاجروا، إذ أن الشرق لا يفهم بدون وجود المسيحيين وحضورهم ودورهم. وقد وردت أيضا نداءات مماثلة من مصادر إسلامية، منها الأزهر الشريف وسيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية وسواهم…
المعاناة مدرسة إيمان
وهذا كله نأمل أن يقوي معنويات أولادنا. كما أن الكثيرين من رعايانا يحدثوننا عن إيمانهم وثباتهم وخبرتهم أن الله يحميهم ويحمي المواطنين من ويلات كثيرة. ونحن نشعر أننا في مدرسة إيمان مؤمنينا. نشكر الله على هذا كله. كما أننا نفرح بعودة بعض الأهالي هكذا مثلا إلى معلولا والقصير ومناطق في حمص وسواها. وبدأت ورش إعادة بناء الكنائس والبيوت في معلولا والنبك وحمص ويبرود، وهناك تعويضات من قبل الدولة، ودعم من أفراد من رعايانا، وبالطبع من المؤسسات العالمية والأصدقاء.

المحادثات التشاورية
كما أن المحادثات التشاورية التي جرت أخيرا في موسكو بين الوفد الحكومي وبعض فئات من المعارضة، في كانون الثاني 2015، أعطت المزيد من الأمل. ونأمل أن تشارك كل أطياف المعارضة من دون وجل ولا تردد، وبانفتاح ورغبة حقيقية في العمل معا لأجل حل سلمي للأزمة في سوريا. كل هذه أمور إيجابية نشكر الله عليها، ونأمل أنها ستزيد طاقات الأمل والطمأنينة لدى جميع المواطنين. وندعو الجميع إلى متابعة الصوم والصلاة اليومية في البيوت والكنائس وفي اجتماعات النشاطات الرعوية المتنوعة، راكعين مستغفرين رافعين الأيدي، وطالبين مع صلاة أشعيا النبي: “أيها الرب إلهنا أعطنا السلام، فقد أعطيتنا كل شيء”. ويسوع نفسه يخاطبنا، كما خاطب تلاميذه: “السلام أستودعكم، سلامي أعطيكم، أنا معكم إلى انقضاء الدهر”، ومع صلواتنا الطقسية الصيامية نرنم بأمل كبير: “يا رب القوات كن معنا، فليس لنا في الضيقات معين سواك، يا رب القوات ارحمنا”.

وأحب أن أذكر بعض آيات من نبوءة أشعيا النبي، فيها تعزية رائعة وشحنة معنويات، نحن بأشد الحاجة إليها: أنا الرب دعوتك لأجل البر وأخذت بيدك وحفظتك عهدا للشعب ونورا للأمم لكي تفتح العيون العمياء وتخرج الأسير من السجن والجالسين في الظلمة من بيت الحبس. أنا الرب وهذا اسمي ولا أعطي لآخر مجدي ولا للمنحوتات حمدي. لا تخف فإني قد افتقدتك ودعوتك باسمك. إنك لي. إذا اجتزت في المياه فإني معك أو في الأنهار فلا تغمرك. وإذا سلكت في النار فلا تلذع ولا يلفحك اللهيب. صرت كريما في عيني ومجيدا فإني أحببتك. لا تخف فإني معك، كل من يدعى باسمي فإني لمجدي خلقته وجبلته وصنعته” (أشعيا متفرق 42 و 43).

الصوم والأخلاق الاجتماعية
الكنيسة في أيام الصوم تحذرنا من خطايا الظلم والاستغلال، وهي كثيرة اليوم، بسبب الفوضى وفقدان الربط الاجتماعية، فهناك السرقة والاستغلال في الأسعار والبضائع والسلع المعيشية. إلى بعض هذه الآفات الاجتماعية أشار بوضوح قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة يوم السلام العالمي ومطلع العام الجديد 2015، وهي بعنوان: “لا عبيد بعد اليوم بل إخوة”، وفيها توجيهات رائعة حول خطايا معاصرة تفوق ثقلا الخطايا الأخرى. وأسميها خطايا اجتماعية. وهذه مقاطع من هذه الرسالة: الصوم والندامة والخطيئة والعدالة الاجتماعية. اليوم كما بالأمس يوجد في جذور العبودية مفهوم للشخص البشري يقبل بإمكانية معاملته كغرض ما. عندما تفسد الخطيئة قلب الإنسان وتبعده عن خالقه وعن أقرناه، فلا ينظر إلى هؤلاء ككائنات تتمتع بكرامة متساوية، كإخوة وأخوات في البشرية، بل ينظر إليهم كأغراض، ويحرم الشخص البشري، المخلوق على صورة الله ومثاله، من حريته بواسطة الخداع والإكراه الجسدي أو النفسي، ويتحول إلى سلعة ويختزل إلى ملكية شخص ما، ويعامل كأداة لا كغاية.

ولا بد من اعتبار فساد الأشخاص المستعدين لكل شيء من أجل الاغتناء من بين الأسباب الكامنة وراء العبودية. إن الاتجار بالكائنات البشرية واستعبادها يتطلبان في الواقع تواطؤا يمر غالبا عبر فساد الوسطاء، وبعض عناصر القوى الأمنية أو لاعبين حكوميين آخرين أو مؤسسات مختلفة، مدنية وعسكرية.

أوجه نداء ملحا لجميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الصالحة، ولجميع الذين، عن قريب أو بعيد، وعلى أعلى المستويات في المؤسسات، هم شهود على آفة العبودية المعاصرة، كي لا يجعلوا أنفسهم متواطئين في هذا الشر، وكي لا يغضوا النظر عن آلام إخوتهم وأخواتهم في الإنسانية، المحرومين من الحرية والكرامة، بل أن يتحلوا بشجاعة أن يلمسوا جسد المسيح المتألم [12] الذي يجعل نفسه مرئيا من خلال الوجوه التي لا تحصى لأولئك الذين يدعوهم هو نفسه “إخوتي هؤلاء الصغار” (مت 25، 40. 45).

نعلم أن الله سيسأل كل واحد منا “ماذا فعلت لأخيك؟” (را. تك 4، 9 ـ 10). إن عولمة اللامبالاة التي ترخي بثقلها اليوم على حياة العديد من الأخوات والإخوة، تتطلب منا جميعا أن نكون صانعي عولمة التضامن والأخوة القادرة على إعطائهم الرجاء مجددا. (إلى هنا رسالة البابا فرنسيس بمناسبة يوم السلام العالمي).

هذه الآفات الاجتماعية نراها بأسف في مجتمعات كثيرة، ومنها مجتمعاتنا العربية، لا سيما في ظل الأزمات في المجتمع العربي، فإننا نرى بأم العين بداية بوادر شريعة الغاب والابتزاز والبلطجة الاجتماعية، والسلبطة والرشوة والتلاعب بالأسعار والسوق السوداء، لا بل نخشى أن تصبح الأزمة السورية سلعة وسوقا للتجارة المحلية والإقليمية والعالمية.

بأسف، إنها أمراض تتفشى في مجتمعنا بسبب فوضى الحرب وويلاتها. وتزيد معاناة المواطنين وفقرهم وجوعهم ومرضهم، وهذا ما تنهانا عنه الكنيسة وتنبهنا عليه في مطلع الصوم، كما نقرأ: “مع صومنا أيها الإخوة جسديا لنصم أيضا روحيا. ونحل كل وثاق ظالم. ونفك عقد المعاملات الابتزازية. ونمزق كل صك جائز. ونعط الجياع خبزا. ولنضف المساكين الذين لا مأوى لهم لكي ننال من المسيح الإله الرحمة العظمى.” (الأربعاء الأول من الصوم – قطعة الغروب الأولى).
نداء إلى التوبة
وإلى هذا تدعونا صلواتنا المقدسة: أيها المسيح الإله العظيم الحميد، يا من بموت مسيحه المحيي نقلنا من الفناء إلى البقاء، أنت أعتق حواسنا من الأهواء المميتة، مقيما لها العقل الباطني مرشدا صالحا لتبتعد عيوننا عن كل نظر شرير، ولا تطرق مسامعنا الأقوال البطالة، ولتتنزه ألسنتنا عن الأقوال غير اللائقة، نق شفاهنا التي تسبحك يا رب. إجعل أيدينا تمتنع عن الأفعال القبيحة، ولا تفعل إلا ما يرضيك، وحصن بنعمتك كل أعضائنا وأذهاننا”. (من قداس الأقداس السابق تقديسها)

وإلى هذا يدعونا بولس الرسول: “أميتوا أعضائكم الأرضية: الزنى، والنجاسة، والأهواء، والشهوة الرديئة، والطمع الذي هو عبادة وثن، والغضب، والسخط، والخبث، والتشهير، والكلام القبيح من أفواهكم. ولا يكذب بعضكم بعضا، إذ إنكم خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الإنسان الجديد، الذي يتجدد بالمعرفة على صورة الله”. (كولوسي 5:3-10)
والبسوا إذن كمختاري الله وقديسيه الأحباء، أحشاء الرحمة واللطف والتواضع والوداعة والصبر. إحتملوا بعضكم بعضا وتسامحوا، وفوق كل شيء إلبسوا المحبة التي هي رباط الكمال، وليسد في قلوبكم سلام المسيح. (كولوسي 12:3-15).

وبهذه العواطف والأماني والآمال، ننهي رسالتنا ونتمنى للجميع صياما مباركا مقدسا يخفف معاناة درب صليب بلادنا ومواطنينا، ويقود شرقنا العزيز بجميع مواطنيه إلى أفراح القيامة”.

السابق
بوتين امل أن تسهم الجولة التالية من المحادثات إلى تسوية الازمة السورية
التالي
الأمواج قذفت باخرة في مرفأ بيروت 30 مترا عن الرصيف