السَّبعيني أحمد فرحات صانع المدقات الخشبيّة

تلفظ حرفة صناعة “المدقات” الخشبية أنفاسها الأخيرة، الحرفة التي يفوق عمرها المئة عام ونيف تحتضر كما الكثير من حرف غابت عن البال وإندثرت، بعد أن كانت تتربع على عرشها في حياة الاجداد.

سرقت الآلة قيمة المدقة الخشبية التي كانت ركنا من أركان المطبخ اللبناني، فيما حوّلها البعض الى تحفة فنية في منزله، بيد أن الواقع يؤكد فرضية “من لا قديم له لا جديد له”، كانت المدقة الخشبية رفيقة رب المنزل في “دق اللحمة الكبة”، “دق الزعتر، الثوم المتبلات وغيرها وكانت تصنع يدويا يمتهنها قلة، وكان الحرفي يجول على المنازل ليصلحها لقاء بدل رمزي، تلك الحالة وباتت جزءاً من الروايات اللبنانية في كتب التراث.

خفت نجم تلك الحرفة، لا زال أحمد داوود فرحات يعمل بها “حرتقة” من وقت لأخر، إبن السبعين ربيعا لم يمنعه تعب الدهر من مزاولة مهنة ” تعلمتها في الصغر وباتت صديقتي”، في غرفة صغيرة خلف منزله العتيق يزاول فرحات المهنة، يمضي ساعات ينحتها، فالمدقة التي يعتقد البعض أن صناعتها بسيطة تحتاج الى عمل أربع ساعات لتنجز.

عدة شُغلْ بدائيّة

مبرد، شاكوس، ورق بردخ، خشب سنديان هذه هي عدة فرحات البسيطة التي رافقته عقوداً من الزمن، فتارة حول الخشب الى مدقات خشبية وطورا الى سكك للحراثة اليدوية وفي أحيان الى مناخل وغرابيل تلك العدة التي كانت رفيقة الفلاح في حياته “ولكن للأسف تحولت الى متحف في بيوت الناس تضعها تحفة” بحرقة يقول فرحات كلماته وهو الذي ينهمك في إنجاز مدقة لأحد الزبائن يريد أن يعرضها في منزله “حرفته باتت تراث هذه العصرنة الحديثة لا أحد ينظر الى قيمة الحرفة كحرفة كيف كانت رائجة، وكانت تعتمد عليها عائلات في معيشتها، واليوم هناك نظرة دونية للحرفي فهو مهمش في المجتمع اللبناني وهذا سر تراجع الحرف في لبنان”.

تتنحى مدقات الكبة والثوم الخشبية جانبا، فالطلب عليها ينعدم، في محترف العم أحمد مازالت حاضرة تنتظر من يشتريها ولكن “الأولوية للبلاستيك هذه الايام”  مردفا ” قديما  كانت  المدقات الخشبية وسكك الفلاحة اولوية أساسية عند الفلاح الذي يعتمد عليها في حياته وكان الحرفي بمثابة “الطبيب الذي يداوي تكسراتها.

في غرفة “الذكريات الصغيرة” ذات الامتار المحدودة لازالت عدة فرحات حاضرة، فيما تتبعثر الأخشاب وسكك الفلاح الخشبية والمناخل والكراسي داخلها، وحده صوت الخشب يقطع المشهد ووحدها كلمات فرحات ” الحرفة تعيش أخر إيامها بعد أن أستعيض عنها بالآلة، أضف الى أن المدقات الخشبية خفت سوقها ومن يطلبها اليوم للديكور في منزله، تحفة يعني”.

رفيقة عمر

تعلم فرحات  الحرفة في عمر الرابعة عشرة وعمل بها مع والده  ما زال “يحرتق بها” من وقت لاخر، فهي “انيسته ورفيقة عمره” كما يقول، يستعيد فرحات ذكرياته العتيقة معها “كانت حرفة الفلاح وربة المنزل، فالمدقة الخشبية اساسية لدق اللحمة على البلاطة، لم يكن هناك مكنات او ما شابه، كل سيدة تحتاج اليها، اضافة الى مدقة الثوم والجوز وكل انواع المدقات التي كنت اتفنن بصناعتها.”

حين يحصل فرحات على خشب السنديان العمود الفقري لحرفته، يأتي بالمنشار ويقطعه حسب حاجته والغاية منه اما مدقة او سكة فلاحة، بعدها يأتي بالمبرد الذي ينحت المدقة بالشكل الذي يريده لتنطلق بعدها رحلة التنعيم عبر ورقة البردخ والتي تتطلب عمل ساعتين او اكثر لتنجز المدقة التي تنتظر الزبون فلا ياتي .

في غرفته حيث يعمل،  تصطف السكك الخشبية التي انجزت “كل واحدة بغضون اسبوع فهي تحتاج الى وقت” يقول “اكثر من مرحلة تعبر بها والعمل يجب ان يكون دقيقاً جداً والخطأ يكلفك وقتا اضافيا في البرد والتنعيم وهاتين العمليتن اساسيتن في الحرفة” ووفقما يشير فرحات فإن نحت الخشب وصقله وتجميله هو فن فالحرف  القديمة كان فيها نوع من الجدلية بين الحرفي وعدته، لم تكن مجرد عمل مجبر عليه، أمضي احيانا ساعات وساعات وانا أصنع مدقة، تحتاج الى صبر وطولة بال وربما هذا سبب انحسارها وزوال معظمها.”

كانت الحرفة مزدهرة قديما وكل الناس تطلبها، وكان الناس مزارعين ويطلبون السكة للفلاحة والحراثة، وكان فرحات بمثابة الطيب المعالج لأي طارئ لها، وحده حفيف الخشب المنبعث من خلف المناخيل والغرابيل الخشبية يعيدك الى اعتق حرفة “متوقعاً ان تتحول الي تحفة في المنازل في المدى المنظور” يقول فرحات الذي يتذكر كيف كان يصلح العطل الطارئ للسّكك الخشبية “ذات يوم قصدني احد المزارعين مستعجلا بعد ان كسرت سكة فلاحته فعمدت الى الاستعانة بخشب من الوعر واصلاحها، الجميل في الحرفة انها بنت ساعتها اي عطل تصلحه بسرعة.”

حتى الرمق الأخير

بين ذكريات العمل وحاضر الخمول تقف حرفة العم احمد اليوم، يطرق بابها الاندثار في ظل تراجع الطلب على المدقات الخشبية واخواتها، ومع ذلك يؤكد العم احمد انه “ماضي في صناعتها طالما يملك رمقاً للحياة”، بين يديه مدقة ينعمها تحتاج الى اكثر من ساعتين عمل لتنجز ، “لم يتعلم احد الحرفة ما حدا  عندو طولة بال جيل الواتس اب ما عندو صبر والمهنة بدا صبر وتركيز” ، يضرب مثلا “المدقة مثل المجتمع مرة بتثور ومرة بتقعد بالزاوية، واليوم تقبع مدقات الخشب في الزاوية تنتظر من يشتريها ليضعها تحفة في مكتبته التراثية كنوع من وجاهة العصر التي غلبت على حرف الوطن” يقول العم فرحات وقد انهكه تعب الخمول وقلة العمل.

تدخل حرفة المدقات كما المنجد والاسكافي والمبيض والفاخوري النفق النهائي في ظل غياب الية وسياسة عامة تنتشل الحرف من الموت فبدلا من “ان يكون هناك سوق الحرفيين السياحي الذي يشجع الجيل الشاب على امتهانها كمصدر رزق، تضرب الدولة مدقتها على ارثها العتيق وتدفنه” يقول العم فرحات التي برحيله ينقطع وجود الحرفة. بعد  أن أكلت الحداثة حرف لبنان، الذي يحتاج الى “مدقة” ليستقيظ من غفوة أفول تاريخ الأجداد.

 

السابق
«يوهان» وصلت.. فهل نشهد طقساً كالذي شهدناه أيام «زينة»؟
التالي
2000 عنصر جاهزون في انتظار بدء الخطة الأمنية في البقاع