العثور على«الرواية المفقودة»

فاروق الشرع

الصفحات التي لا يزيد عددها على 45 صفحة موزعة على ثلاثة فصول من الكتاب المكون من 435 صفحة، هي اشبه بشذرات او لمحات عابرة عن الموقف الرسمي السوري من الأزمة اللبنانية، في فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، لكنها قد تكون تأسيساً لأول رواية رسمية سورية، لم تكتب بعد، لعملية الردع التي تحولت الى واحدة من أطول عمليات حفظ السلام، وأعقدها، وأسوأها.

هي غيض من فيض مذكرات النائب السابق لرئيس الجمهورية السورية فاروق الشرع، دونها في كتاب صدر أخيراً عن المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، وجعل من المفاوضات مع اسرائيل محورها الرئيسي، وجوهرها الفعلي، لتكون بذلك بالفعل أول شهادة سورية، رسمية طبعا، على تلك العملية الدبلوماسية التي استغرقت نحو عقدين من الزمن، تخللها الكثير من المناورات والخدع والكمائن، قبل ان تنتهي الى فشل ذريع.. كان لبنان، اكثر من اي بلد آخر شريكاً وشاهداً عليه، وربما ايضا مستفيداً منه.

“الرواية المفقودة”، وهو العنوان الذي اختير للكتاب الاول للشرع، بعد خروجه من الحكم الى التقاعد والانكفاء في منزله كتعبير ضمني عن الاعتراض على أسوأ إدارة لأخطر ازمة تواجهها سوريا، لا تمثل مذكرات شخصية كاملة لرجل شارك في صناعة القرار السوري طوال اكثر من ثلاثين عاما، ولا هي سرديات موثقة، لتلك الحقبة من تاريخ سوريا الحديث. هي محطات متصلة تبدأ بسيرة شخصية قادت الى قمة الهرم السياسي، وتتوقف عندما انقلب ذلك الهرم في العام 2000 بوفاة الرئيس حافظ الاسد، وصورة ولديه بشار وماهر يتنقلان داخل بيت الاسرة بقلق ظاهر.. في ذلك الختام، يكتب الشرع في مستهل فقرة من الصفحة قبل الاخيرة من الكتاب، ما حرفيته: “من حيث المبدأ انا لا أؤمن بالتوريث..

بات هذا الموقف من الماضي السوري التليد. ولا شأن لـ”الرواية المفقودة”به سوى باعتباره محطة ختامية للكتاب. ثمة حقائق ووقائع بل وحتى محاضر بالغة الاهمية عن الصراع الدبلوماسي الضاري الذي خاضه الشرع مع العدو الاسرائيلي على اكثر من جبهة، والذي كتب عنه عدد من المسؤولين السوريين الحاليين والسابقين، لكن كتاباتهم كانت اشبه بدراسات اكاديمية اكثر من كونها مراجعة ومحاسبة لتجربة مباشرة، كان الرجل مؤثراً في صنعها، من دون ان يقع امام مزايدات الاشقاء والاصدقاء، ومناورات الاعداء والخصوم.. وان كان يبوح بسحر الاسد الاب عليه، ويلمح الى خلافات مع جميع المحيطين به، بدءا من شقيقه رفعت الى عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وسواهم.

الرواية المفقودة ليست تاريخاً، هي تصحح أخطاء جدية في السرديات السورية وطبعا الاسرائيلية والاميركية. تسد ثغرات في ذاكرة التفاوض مع العدو، لكنها لا توثق تلك العملية من بداياتها الاولى في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وصولا الى اسطنبول في العام 2006، ولا تجري تقييما للاداء السوري ولا للخداع الاسرائيلي الذي كان صفة ملازمة، لا ينكرها الشرع ابداً بل لعله يثبتها ويبرهن عليها من مؤتمر مدريد العام 1991 الشهير وصولا الى مفاوضات شيبردستاون العام 2000 ، مروراً طبعا بأهم عملية تدقيق وتحليل وفضح لما سمي في حينه ب”وديعة رابين” الشفهية، التي يؤكد الشرع في كتابه اعتراف الاميركيين اكثر من مرة انها موجودة بالفعل في جيبهم، ويثبت ان الاسرائيليين رفضوا مرارا وتكرارا تحويلها الى نص مكتوب يتضمن الانسحاب الى خط الرابع من حزيران العام 1967.

هي شهادة الشرع الذي كان ولا يزال يعرف عن خفايا تلك المفاوضات اكثر من أي سوري آخر. وقد اصبحت في المتناول، عندما يحين موعد الحكم التاريخي على تلك الحقبة، وعلى الرجل الذي، وان  كان أسير شخصية الاسد الاب، لكنه اختلف مع قيادته في الكثير من المفاصل الاساسية للسياسة الخارجية السورية، ومنها العلاقة غير السوية مع منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات، والعلاقة الصراعية مع الرئيس العراقي صدام حسين، والعلاقة الملتبسة مع العرش الاردني والحكم المصري.. بل وحتى الادارة غير الحكيمة للملف اللبناني الذي يصفه الشرع عند اول مقاربة مباشرة له في منتصف الثمانينات، بـ”صداع الرأس”،ويلمح عرضا الى انه كان يرجو الا يظل هذا الملف في عهدة العسكر والمخابرات، والا يتعدى التدخل السوري ما يحفظ أمن سوريا الاستراتيجي من خلال التمركز العسكري في البقاع والجبل..

لا يلام الشرع على عدم تقديمه بعرض وافٍ لذلك الملف الذي كان شأناً داخلياً سورياً لا يخص وزير الخارجية ولا نائب الرئيس المسؤول عن السياسة الخارجية. لكن الصفحات القليلة التي يخصصها للبنان تتضمن إشارات بالغة الاهمية عن العقل السياسي السوري، لم يحتملها الكثيرون من اللبنانيين يوما، منها الحديث عن الجبهة الواحدة الممتدة من الجنوب اللبناني الى الجولان، واستثمار دمشق لفكرة المسار التفاوضي المشترك، وشعار وحدة المسار والمصير، الذي أدى بالقيادة السورية الى وضع الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان العام 2000 في سياق المؤامرة على المقاومة ليس الا..

لعل الملف اللبناني كان بالفعل صداعاً للشرع، لكنه كان متعة ما بعدها متعة ومنفعة لا تقدر بثمن بالنسبة الى جميع المسؤولين السوريين السياسيين والعسكريين والامنيين.. لكن تسلل ذلك الملف خفية الى صفحات ذلك الكتاب، لا يقلل ابداً من أهمية العثور على” الرواية السورية المفقودة” للمفاوضات مع العدو الاسرائيلي.
(المدن)

السابق
18 ساعة لوضع مولود يزن 6 كيلوغرامات!
التالي
رأت بقعتي دم على سروال ابنها.. هذا ما فعلته