الخوف من الخوف

احتقار”المقاومين” للخائفين منهم ومن صواريخهم، أمثال إسرائيل و”الخونة” و”العملاء” و”المتقاعسين” من أبناء بلادهم، هو أمر معروف. مؤخراً، بين عمليتَي الجولان وشبعا، عاد الخوف على لسان القادة والجمهور “المقاومين”، وغطى على كل المفردات الأخرى، وكاد أن يتفوق على “النصر الآخر” الذي أحرزه “حزب الله” في عملية شبعا: فكان الإستئساد سيد الموقف في خطاب حسن نصر الله بعد شبعا، في خطب كبار مسؤوليه، في ردود أفعال جمهوره على الشاشة الصغيرة، في تعليقات مشجعيه وانصاره، في الأخذ والرد الفايسبوكيَين. بل في زخم القذائف والرصاص الذي انطلق فوق رأس العاصمة، أثناء خطاب نصر الله..وكلهم لسان واحد يؤكّد ويردّد ويقسم بأن لا مكان للخوف في قلبه. فكرتهم هي ابلاغنا، بابتسامة إزدراء، وبلهجة متعالية، كم هو خائف العدو، كم هو يقيم من الاحتياطات، كم ينشّط  مخابراته، كم يحسب من الحسابات! “ها ها ها!” يسخرون، ثم يتابعون: “انظروا كيف ان إسرائيل المذعورة، بعد عملية الجولان وشبعا، تخلي قراها الحدودية، تجرّب ملاجئها، تدرّب مواطنيها على النزول اليها، تعلن الطوارىء…! أنظروا إلى هؤلاء الجبناء من اللبنانيين كيف يرتعشون، يرتجفون، يهلعون من حرب ممكنة… فيما نحن! آه… نحن الذين ندخن النرجيلة على الحدود، نضحك على الخائفين، ولا نخشى صاروخا ولا طائرات بطيار أو من دونه!”. فيطلع الزجل والمرؤة والفروسية وشمشون وعنتر وكل انواع الشجاعة البدائية، المنقرضة…

إسرائيل خائفة نعم؛ ليس لأن الخوف يغذي عقيدتها العسكرية ويرفع إلى قيادتها “الشجعان” الذين يعرفون كيف يغذونها. فاذا لم تخف إسرائيل في يوم من الأيام، فسوف يكون ذلك بداية نهايتها… ليس هذا فقط، إنما أيضا لأن واحدة من تناقضاتها الجوهرية انها مجتمع محارب، ويحترم في الآن عينه حياة إنسانه. فترى حكوماتها تشدد على الروح القتالية بالتجنيد والتعبئة المستمرين، ولكنها تحافظ على حياة مواطنيها، تحميهم من عواقب حروبها، تبني لهم الترسانات العسكرية والنووية، بحيث تخوض الحروب وهي على كامل الإستعداد اللوجستي والإنساني والعسكري. تخاف اسرائيل لأنها تخطط وتراكم وتنظم وتقتصد. تخاف لأنها لا تريد ان تضيع خيراتها سدى، ولا انسانها. في خوفها تناقض ولكنه خوف بشري بامتياز، لا يخاطب آلهة الشجاعة إلا خلف العقل والمصلحة.

أما نحن، مواطنو هذه الدول البسطاء، الذين لا نرى في وكالة “حزب الله” عن إيران الا تدميراً لبلادنا، فنخاف خوفا آخر، عشنا ملامحه العامة خلال الاثنتي عشر ساعة التي اعقبت عملية شبعا المجيدة: خوف من تكرار الإنتصار الإلهي التاريخي الإستراتيجي، ثانية، ولكن في ظروف أقسى مما كان، بعدما نخر هذا “الإنتصار” في صميم الإجتماع الوطني، فاهترأت بناه وفسد ناسه ودبت أنماط من الفوضى فيه وأُغلقت حدوده، وتراجع اقتصاده، وفرغ من شبابه، واجتاحته قوافل البؤس السورية الخ. يمكنك أن تتصور حالة اليتيم من الأبوين والأهل، الضائع وسط قرارات شجاعة، الذي إذا طالته قذيفة، مجرد قذيفة، قد لا يصل إلى مستشفى، وإذا وصل قد لا يدخل، واذا عاد الى بيته مخذولاً، قد يجده تحت الأنقاض الخ… والخيال اشتغل خلال تلك الساعات الطويلة، والخائفون على أولادهم، على رزقهم، على قريتهم، على ما تبقى لهم من مستقبل… كل هؤلاء الجبناء المتخاذلين، انتقصت رجولتهم وكرامتهم، لأنهم خافوا.

الذين يتغنون بعدم خوفهم من انتصار استراتيجي آخر، يقفون أمام عدد من الاحتمالات: إما انهم لا يعون، غائبون عن إدراك مآل “انتصاراتهم”؛ أو انهم فاقدون لغريزة الحياة، يعتقدون بأنهم جاؤوا إلى هذه الدنيا بهدف الموت؛ او أنهم لا يتجرأون على البوح بخوفهم، لأن ذلك بمثابة انفصال عن ركن من أركان أيديولوجيتهم “المقاوِمة”، القائم على الخوف من الخوف.

(المدن)

 

 

السابق
«داعشيون» يقترحون أساليب وحشية لقتل معاذ!
التالي
لماذا يختار داعش ثوباً برتقالياً للأسرى؟