«دولتان» بروابط كثيرة..

الكلام عن «داعش» صار مثل عدمه.. أي تقريباً مثل الكلام الذي قيل ويُقال منذ ستة عقود، عن إسرائيل: فائض بلاغي يرمي نتاجه في الفضاء لكنه لا يغيّر شيئاً على الأرض.

الفارق بين «داعش» الإسلامية، والأصولية اليهودية هو أن «دولة» الأولى هي نتاج توليفة عجز الآخرين عن إنهائها بسرعة، فيما دولة الثانية هي التعبير الأمثل عن عجز الآخرين (العرب والمسلمين) عن وضع حدّ لها! أو حدود، في الجغرافيا والسياسة ومكارم الأخلاق!

والفارق الآخر، هو أن الكلام عن «دولة داعش» أكثر من المعارك التي تخاض ضدها، فيما الكلام عن دولة إسرائيل هو البديل الذي يملأ الفراغ السلبي المتأتي من انعدام أي معركة جدية ضدها.

«داعش» فيلم غريب وأحجية واضحة. «دولة» معلنة لكنها افتراضية أكثر من كونها واقعية. ويمكن بكثير من الاطمئنان، طرح مليون و999 ألف سؤال عن منابتها ومراميها، كما عن سرّ انفجارها في ذلك الحزيران من العام الماضي حيث سيطرت بنحو 1500 مقاتل فقط على الموصل التي هي ثاني أكبر مدينة في العراق والتي كانت محمية بـ35 ألف جندي وشرطي ورجل أمن.. كان الظن في جودة الأرقام المقارنة وصحّتها، قبل أن يتبيّن أنه ظنّ في غير موضعه والخطأ فيه رنّان طنّان. والصح: 1500 عنصر «داعشي» عطّلوا أو جمّدوا أو دحروا نحو 350 ألف جندي وشرطي ورجل أمن عراقي رسمي وعلى مساحة تغطي أكثر من ثلث الجمهورية المنكوبة!

و»داعش» الأحجية هذا، ظاهرة قائمة في ذاتها: غموضه يوازي فصاحة ممارساته. وهذه لا تزال تقدم ما يكفي من مواد صادمة حتى بمعايير القتال المألوفة في العراق وسوريا! وتلك الممارسات فيها مفارقة لافتة: تغرف من البطن العميق للتاريخ، لكن شعاعها يطير بسرعة تقنيات الحداثة.. دأبها تخريبي مدروس في واقع جغرافي وميداني لا تنقصه أي فوضى! شراذم تسيطر (؟؟) على مساحة تفوق مساحة فرنسا. وتواجه (افتراضاً) حلفاً دولياً لم يسبق لجبروته الناري، مثيل في التاريخ.

في الواقعين السابحين في بحر العرب والمسلمين، أي «داعش» وإسرائيل، هناك روابط لا تحتاج سوى إلى قليل من التأني والتروي كي تُرى تماماً. منها يتصل بالمنطلقات والمشتركات، ومنها يتصل بالولايات (المتحدة!). في الأولى أن «العدو» عند «الدولتين» هو المناخ العربي الإسلامي الأكثري والباقي تلوين هامشي، يُرمى على أصل اللوحة! وفي «الدولتين» استناد متشابه إلى نص ديني مأخوذ من سلبياته مع أنه يحتمل الكثير من التأويل الإيجابي. وفي «الدولتين» ركون إلى اعتماد العنف في أقصى حالاته، وافتراضه حلاً دائماً لأي معضلة، طارئة أو مقيمة، عرضية أو أصلية!

وفي الثانية، أن «الدولتين» تستندان إلى ثقل الولايات المتحدة، وإن كان ذلك الاستناد مزدوج الوظيفة، أو بالأحرى، متناقض الوظيفة: دولة إسرائيل محمية بذلك الثقل الذي يمنع عنها أي فرض ميداني أو سياسي أو ثقافي أو قانوني أو أخلاقي! ويجعل منها في المحصلة، حالة وحيدة من نوعها في كل العالم.

«دولة داعش» محمية (المصطلح ثقيل!) بالقرار الأميركي الذي يمنع تدميرها السريع سواء مباشرة بالقوة النارية المناسبة، أو مواربة من خلال إنهاء المناخ الذي أوجدها في سوريا مثلما فعل في العراق مع وضع نوري المالكي على الرفّ.

في الحالتين، تنتعش رياضة الكلام في فضاء مفصول عن الأرض، وينتعش رديف لها، اسمه جلد الذات.. مع أن هذه الذات لا تستحق كل ذلك القصاص!

(المستقبل)

 

السابق
ياسين الحاج صالح: «صرلنا 1415 يوم عم نحترق»
التالي
والد النائب قاسم هاشم في ذمة الله