خريف الإعلام

من المبكر تعداد ضحايا «الربيع العربي». الربيع لا يزال في بداياته، والشهية إلى الدمّ لا تزال مفتوحة. ولائحة الدول العربية المرشّحة للتقسيم تحتمل أسماء إضافية. هنا حديث يطول. ما يعنينا من تداعيات «الربيع»، الهجمة الوقحة على الإعلام، وعودة الحكم البوليسي الذي يقتل القتيل ويسير في جنازته، من دون مساءلة.

التزمُّت الإعلامي المستجدّ لا يأخذ في الاعتبار نموّ حرّيات التعبير خلال السنوات الأخيرة. على العكس، باتت الأنظمة أكثر تشدداً في معايير النشر، وأكثر تحسساً للولاءات، ولم تعد تسمح بهوامش لـ «الرأي الآخر». «الجزيرة مصر»، كانت العقدة في الخلاف المصري – القطري وفي الأزمة بين الدوحة والرياض، وسُجن ضحيّة الخلاف ثلاثة صحافيين. الحل لم يُتح إعادة برمجة القناة أو تغيير طاقمها التحريري، بل إغلاقاً فورياً. وهو ما حصل مع قناة «العرب»، المولود المدلل للإعلام السعودي، المملوكة من الأمير الوليد بن طلال، صاحب شبكة «روتانا».
كان من المفترض بـ «العرب»، بصرف النظر عن الرأي في محتواها أو دورها، أن تكون درّة الإعلام السعودي، وأن تنافس «الجزيرة» بجرأتها، وتسبق «العربية» بحداثتها.
إلا أنّه، ومن سوء طالع المحطة، أن تأسيسها استغرق نحو ثلاث سنوات في عهد عبد الله، وخرجت إلى المشاهدين في عهد سلمان. تتباين الرؤية الإعلامية للملكين، كما تختلف حساسيتهما للمخاطر. فالرياض أوعزت إلى المنامة، الجناح المعتدل المطلّ على العالم للحكم السعودي، أن تغلق القناة بعد ساعات من انطلاق بثّها. الذريعة كانت، أنّها استضافت معارضاً بحرينياً. نحو 300 مليون دولار من الاستثمارات سقطت بقرار. السعودية تخشى محطة أنشأتها، باعتبارها نافذة قد تأتي منها الرياح، علماً أن القيّمين على «العرب» ردّدوا، ليل نهار، أسماء ضيوفهم بشكل علنيّ، لا بل تبجّحوا بهم، إلى حد الإعلان عن الاستعداد لفتح الهواء لـ «الخليفة» أبي بكر البغدادي!
أما مصر، فـ «ربيعها» أنتج ثلاثة رؤساء في ثلاث سنوات، عاد آخرهم إلى أساليب بوليسية في قمع الحريات والإعلام، من دون أن يجدّد. بعد اغتيال شيماء صباغ، خرج رئيس الجمهورية معزياً ذويها، وقال: «أنا منكم. وشيماء مني». وأوقفت أجهزته رفيقها نائب رئيس حزبها، «التحالف الشعبي الاشتراكي»، زهدي الشامي لساعات، للاشتباه في أنّه قتلها بمسدس كان يخبّئه داخل سترته. طبعاً، لا ضرورة للتذكير كيف قتلت شيماء، وبحراسة من كانت تظاهرة الورود السلمية التي كانت تشارك فيها لحظة استشهادها. مفهوم أيضاً، أن يكون موقف الرئيس المصري تبريرياً حدّ المبالغة، علماً أنّ أحداً لا ينافسه في حملة علاقات عامة مصريّة. فهو استطاع استيعاب الإعلام المعارض، وتدجين الأحزاب، برغم أنه متفرّغ تماماً لمواجهة الإرهاب، الشماعة الجديدة في كبت الحريات، وتجاوز القوانين. ولكن أليس من المخجل أن يضطّر صحافي مصريّ مسجون بقضيّة رأي، ويحمل هوية بلاده أباً عن جد، إلى التخلّي عن الهوية طمعاً بإطلاق سراحه، بعدما أيقن أنّ نظام بلاده مستعدّ لتلميع صورته أمام الأجنبي فقط، فيُفصّل القوانين على قياس إطلاق سراح رعاياه، ويترك أبناء جلدته في ظلام السجن. هذه أيام سوداء للإعلام. لبنان ليس بمنأى عنها، انظروا إلى نقابة صحافتنا.

(السفير)

السابق
راغب يسخر من أحلام والحرب تتجدد بينهما
التالي
إلغاء إجازة طبيب أسنان