لأن «الوطنيّة اللبنانيّة» توافقيّة لا إراديّة..

هنا حلقة ثانية بعد الأولى يوم الثلثاء المنصرم حول ضرورات ومبررات عقد مؤتمر وطني غير عادي لدعم الجيش. مبرّرات أين منها “السياسة السياسيّة” اللبنانية؟

“زارتْنا” حربٌ قديمةٌ الأسبوعين المنصرمين مثلما يزورك صديق – العداء لإسرائيل – من أيام “المراهقة” وبالنسبة للبعض الآخر “الزائر” خصمٌ قديم: “حزب الله” وإيران. تتذكّر أن “الزائر” باتت لديه عائلة وأولاد وأحفاد ويسكن قريبا منك في جنوب “الحي” الذي تسكنه. لكننا رغم هذه “الزيارة” المهمّة التي شغَلَتنا وحملت معها أخباراً مثيرة من القنيطرة ومزارع شبعا، نتذكّر بسرعة أيضاً أننا في حرب أخرى جديدة أكثر مرحليّة وفاعليّةً وحضوراً هي الحرب البقاعيّة بين الجيش اللبناني والمنظّمات الأصولية المسلّحة لأنها، رغم خصوصيّة جبهتها اللبنانية، جزءٌ من حرب شاملة متداخلة شاسعة تمتد من قرية عرسال إلى محافظة مأرب في وسط اليمن مروراً بالرقة والموصل.
في الحرب القديمة إسرائيل هي الطرف التقليدي الخطير. في الحرب الجديدة إسرائيل متفرّجة وحادثة القنيطرة هي أقرب ما تكون إلى اصطدام مؤقّت غير متوقّع بين الحربين القديمة والجديدة. وكان ذا دلالة أن هذا الاصطدام حصل في منطقة القنيطرة بين مواقع نفوذ “جبهة النصرة” المحاذية للجولان المحتل وبين مواقع تمركز الجيش الرسمي السوري. خلالها كانت قوة أساسية من الحرب القديمة تتفقد الجبهة بصفتها قوة في الحرب الجديدة أي معنيّة لحظتها بالعدو الأصولي لا بالعدو الإسرائيلي. هكذا وبسرعة ظهرت ضراوة الحرب وإجراميّتها في تفجير “جبهة النصرة” باص المدنيين في دمشق أمس الأول لتذكِّرنا بقسوةٍ بذلك.
قد “تزورنا” جزئياً الحرب القديمة في أي لحظة ولكنها لم تعد سياقيّةً في لبنان أي لم تعد الرئيسيّة ولأسباب تتعلّق بتحوّلات الشرق الأوسط التي تُقحم لبنان في ديناميّاتها والتباساتها.
ولأننا بتنا في زمن الحرب الجديدة لا يجب طرح الأسئلة المثبطة للعزيمة القتالية للجيش والمواطنين. لكنْ أيضاً في المجتمعات المعاصرة لا تُخاض الحروب من دون أسئلة حول طاقة البلد المعني على احتمالها.
في حالة الحرب الراهنة بين الجيش اللبناني والتنظيمات الأصولية المسلّحة يمكننا أن نسجِّل السمات التالية لها:
أولاً هي حرب مفروضة على الدولة اللبنانية وبالتالي على الجيش. مفروضة بقرار القوى التي تخوض هذه الحرب بأشكال مختلفة.
ثانياً هي حرب وإن كانت حدودية، أي خارجية فهي أيضا داخلية بمعنى ما حيث الداخلي المعادي يشبه الخارجي وليس العكس. أي أنه يلتحق
بالخارجي.
ثالثا هي حرب يتوفّر فيها التضامن الشعبي والسياسي مع الجيش ولكنها تجري في ظروف انقسام سياسي حاد على الأولويات السياسية داخل لبنان ولعلاقة لبنان بمحيطه. بهذا المعنى فإن لهذه الحرب وظيفة توحيديّة لمجتمع منقسم. وهذه ذروة قوتها ولكنْ أيضا ذروة التباسها.
رابعاً الإرادة الوطنية تتعاطف مع الجيش ولكن الإرادة القتالية للمجتمع هي إرادة محدودة. بهذا المعنى أيضاً فهي تنعكس على الإرادة القتالية للجيش الذي عليه أن يحسب حسابات داخلية هي، من الناحية العسكرية، حسابات مربكة.
خامساً هي حرب استنزاف للجيش تخوضها التنظيمات الأصولية المسلّحة والخطير فيها أن كلفتها البشرية على جيشنا الوطني بدأت تصبح مجزرة فعلية تعويضها الوحيد والجوهري هو الضمان الفعلي المتقدِّم للأمن الوطني اللبناني الذي يمثّله الجيش. لكن هذا المكسب العام، أي الإنجاز العام، لا يحول دون السؤال المشروع حول طاقة الجيش على خوض هذه الحرب في الشروط السياسية الراهنة. والأهم كيفية تمكينه من خوضها بما يتلاءم مع جدواها البالغة الأهميّة؟
هذه هي أبرز وظيفة للنقاش العام في زمن الحرب في المجتمعات الحديثة حين لا تكون مشروعية الحرب موضع أي بحث وإنما شروط الحرب والطاقة عليها بعيدا عن الكلام السياسي الخبيث.
لهذا فإن أول عمل أساسي يجب أن تقدّمه “الطبقة” السياسية الحاكمة للجيش هو تخفيف مهمّاته الداخلية للتفرّغ إلى حربه الحدودية. هذا معيار حاسم لخدمة الجيش كقوة قتالية. والحاصل هو العكس أي أن الجيش مُثقَلٌ بالمهمات الداخلية في المدن والأرياف، والتطوّر الإيجابي الرئيسي الوحيد في هذا المجال كان تخفيف بل إلغاء التوتّر الأمني اليومي في طرابلس ممّا حرّره حتى اللحظة من عبء ضاغط. وإنْ كنا نعرف جميعنا أن هذ “التحرير” كان هدية إقليمية رضخ لها السياسيّون اللبنانيّون أكثر مما صنعوها.
ليس من تضامن حقيقيٍّ مع الجيش من دون توفير شروط لعدم استنزافه الداخلي.
مهمة مؤتمر وطني لدعم الجيش ليس فقط التأكيد على تجاوز الانقسام السياسي المسيطر على الحياة السياسية بل أيضا دخول جميع القوى الدينية والمدنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على خط دعم غير تقليدي للمؤسّسة العسكرية.
سيكون من السذاجة بمكان الاعتقاد أن شخصاً ما أو جهةً ما قادرة على توظيف مؤتمر كهذا لا سابقة له في لبنان… لصالحه أو لصالحها وبالتحديد في فترة فراغ رئاسة الجمهورية. نطرح هذا الاعتبار تحسّباً لحسابات “السياسة السياسية” اللبنانيّة التي لا تكف عن اللعب في المراحل الخطرة. وفي ظنّي أنه رغم أن مبادرة الدعوة لتحضير وعقد المؤتمر الوطني غير العادي لدعم الجيش يجب أن تصدر عن الحكومة اللبنانيّة كممثّلة لكل القوى الرئيسيّة فإنه يمكن أن يكون للأحزاب والشخصيات المسيحية دورٌ كبيرٌ في الدعوة للمؤتمر. لأن القيادات المسيحية إذا لم تكن قادرة على الاتفاق على رئيس جديد للجمهورية فهي حتما قادرة على الدعوة إلى مؤتمر وطني لدعم الجيش أو لعب دور تحريكي مع المراجع المسلمة اللبنانية في هذا الاتجاه.
من النادر أن تتجسّد “المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة” المختلَف تقليديا عليها في الحياة السياسية اللبنانية، وبالتالي غير الموجودة في الإجماع الوطني، مثلما يمكن أن تتجسّد اليوم وفي هذه المرحلة حول المؤسسة العسكرية، ليس على الطريقة “الانقلابية” ولكن باعتبارها العنوان الأبرز الجديد للميثاق الوطني أياً يكن الرئيس الجديد.
مؤتمر وطني ستسأل فيه الطاقات العاقلة والمسؤولة من مختلف الأطياف اللبنانية أسئلة عاقلة ومسؤولة عن أفق هذه الحرب وتناسب أكلافها البشرية مع أهدافها والقدرة عليها من موقع لا التضامن فقط بل أيضا من موقع الالتحام السياسي والشعبي في هذه الحرب.
نعرف كلبنانيّين من خبرتنا على مدى أكثر من تسعين عاماً أن “الوطنيّة اللبنانيّة” هي وطنيّة توافقيّة لا إراديّة… ولكن هذه هي “اللحظة” التي يمكن أن يغيب فيها الفارق بين الاثنتين: التضامن غير التقليدي مع الجيش في حالة حرب.

(النهار)

السابق
إزالة الشعارات السياسية عن طريق صيدا – بيروت تبدأ الخميس
التالي
في غزة.. حيوانات برية تموت جوعاً